للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الخامس: كلمة (الأغراض)]

هذه الكلمة من إطلاقات المتكلمين، وإليك بعض التفصيل في هذا اللفظ.

أ- الأغراض في اللغة: جمع غرض، والغرض هو الهدف الذي يرمي فيه، أو هو الهدف الذي ينصب، فيرمى فيه.

والغرض يطلق في اللغة أيضاً على الحاجة، والبغية، والقصد (١).

ب- الغرض في اصطلاح علماء الكلام: قيل هو ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل (٢).

وقال الجلال الدواني رحمه الله: (الغرض هو الأمر الباعث للفاعل على الفعل، وهو المحرك الأول، وبه يصير الفاعل فاعلاً) (٣).

وبذلك نرى توافق المعنى اللغوي والاصطلاحي للغرض، وأنه غاية الفاعل من فعله، وهو الباعث له على فعله (٤).

ج- مراد أهل الكلام بهذه اللفظة: يريدون إبطال الحكمة في أفعال الله عز وجل وشرعه.

د- حجتهم في ذلك: يقول المتكلمون – وعلى وجه الخصوص الأشاعرة – إننا ننزه الله عن الأغراض, فلا يكون له غرض فيما شرعه أو خلقه؛ فأبطلوا الحكمة من ذلك، وقرروا أن الله لم يشرع إلا لمجرد مشيئته فحسب؛ فإذا شاء تحريم شيء حرمه، أو شاء إيجابه أوجبه.

وقالوا: لو قررنا أن له حكمة فيما شرعه لوقعنا في محذورين:

الأول: أنه إذا كان لله غرض فإنه محتاج إلى ذلك الغرض؛ ليعود عليه من ذلك منفعة، والله منزه عن ذلك.

والثاني: أننا إذا عللنا الأحكام أي أثبتنا الحكمة والعلة لزم أن نوجب على الله ما تقتضيه الحكمة؛ لأن الحكم يدور مع علته، فنقع فيما وقع فيه المعتزلة من إيجاب الصلاح والأصلح على الله؛ لأن الغرض عند المعتزلة بمعنى الغاية التي فعل لها، وهم يوجبون أن يكون فعله معللاً بالأغراض (٥).

هـ- الرد عليهم:

١ - أن هذا اللفظ – الأغراض أو الغرض – لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، ولا أطلقه أحد من علماء الإسلام وأتباعهم؛ لأن هذه الكلمة قد توهم النقص، ونفيها قد يفهم منه نفي الحكمة؛ فلابد إذاً من التفصيل، والأولى أن يعبر بلفظ: الحكمة، والرحمة، والإرادة، ونحو ذلك مما ورد به النص.

٢ - أن الغرض الذي ينزه الله عنه ما كان لدفع ضرر، أو جلب مصلحة له، فالله سبحانه لم يخلق، ولم يشرع لأن مصلحة الخلق والأمر تعود إليه، وإنما ذلك لمصلحة الخلق.

ولا ريب أن ذلك كمال محض، قال تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا [آل عمران: ١٧٦].

وقال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزُّمر: ٧].

وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني, ولن تبلغوا ضري فتضروني)).

وهذا أمر مستقر في الفطر.

٣ - أن إيجاب حصول الأشياء على الله متى وجدت الحكمة حق صحيح، لكنه مخالف لما يراه المعتزلة من جهة أن الله عز وجل هو الذي أوجب هذا على نفسه، ولم يوجبه عليه أحد، كما قال عز وجل: كتب ربكم على نفسه الرحمة [الأنعام: ٥٤].

وكما قال: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ [الرُّوم: ٤٧].

وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: ((أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به)) (٦) الحديث.

فهذا حق أوجبه الله على نفسه، ولله أن يوجب على نفسه ما يشاء.

ثم إن مقياس الصلاح والأصلح ليس راجعاً إلى عقول البشر ومقاييسهم, بل إن ذلك راجع إلى ما تقتضيه حكمة الله تعالى, فقد تكون على خلاف ما يراه الخلق باديء الرأي في عقولهم القاصرة؛ فانقطاع المطر – على سبيل المثال- قد يبدو لكثير من الناس أنه ليس الأصلح، بينما قد يكون هو الأصلح لكنه مراد لغيره لقوله تعالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الرُّوم: ٤١].

وكذلك استدراج الكفار بالنعم، وابتلاء المسلمين بالمصائب, كل ذلك يحمل في طياته ضروباً من الحكم التي لا تحيط عقول البشر إلا بأقل القليل منها.

بل إن خلق إبليس، وتقدير المعاصي، وتقدير الآلام يتضمن حكماً تبهر العقول وتبين عن عظيم حكمة أحكم الحاكمين (٧). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: ٢٣٢


(١) انظر ((لسان العرب)) (٧/ ١٩٦).
(٢) انظر ((شرح مطالع الأنصار على طوالع الأنوار)) لشمس الدين بن محمود الأصفهاني (ص: ٩١٧).
(٣) ((شرح العقائد العضدية)) للجلال الدواني (٢/ ٢٠٤).
(٤) انظر: ((الحكمة والتعليل في أفعال الله)) د. محمد المدخلي (ص: ٢٦ - ٤٧).
(٥) انظر ((آراء المعتزلة الأصولية)) دراسة وتقويماً د. علي الضويحي (ص: ١٠٦ - ١١٥).
(٦) رواه البخاري (٢٨٥٦)، ومسلم (٣٠).
(٧) انظر تفصيل ذلك في ((كتاب الإيمان بالقضاء والقدر)) للكاتب، (ص: ١٤٥ - ١٧٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>