للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الخامس: اشتمال الوحي على مسائل التوحيد بأدلتها]

إن المصدر الذي تؤخذ منه مسائل أصول الدين هو الوحي، فكل ما يلزم الناس اعتقاده أو العمل به، قد بينه الله تعالى بالوحي الصادق عن طريق كتابه العزيز، أو بالواسطة من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو ما يرجع إليهما من إجماع صحيح، أو عقل صريح دل عليه النقل وأرشد إليه.

قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩].

وقال سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: ٩].

وفي الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (( .. وأيم الله، لقد تركتكم على البيضاء، ليلها ونهارها سواء، قال أبو الدرداء: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا والله على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء)) (١)، وفي رواية أخرى: ((لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) (٢).

وفي صحيح مسلم لما قيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: ((قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة! فقال: أجل .. )) (٣).

ودخول مسائل التوحيد وقضاياه في هذا العموم من باب الأولى؛ بل (من المحال أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب) (٤).

والرسول صلى الله عليه وسلم بين مسائل التوحيد تارة بأدلتها النقلية مباشرة كأحوال البرزخ، ومسائل الآخرة، وتارة يجمع إلى الأدلة النقلية الأدلة العقلية ويرشد إليها، فإما أن تكون أدلة مسائل علم التوحيد أدلة نقلية، أو أدلة نقلية عقلية.

وبهذا الأصل المبارك اعتصم أهل السنة والجماعة، فصدروا عن الوحي في تعلم التوحيد في مسائله وأدلته، (ولم ينصبوا مقالة ويجعلوها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسل؛ بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة، هو الأصل يعتقدونه ويعتمدونه) (٥).

وردوا عند التنازع في مسألة ما إلى نصوص الوحي، امتثالاً لقوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:٥٩]، ومعنى الرد إلى الله سبحانه: الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: الرد إلى سنته بعد وفاته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين" (٦).

وفي إعمال هذه القاعدة نظر إلى الوحي بعين الكمال، واستغناء به عن غيره، واعتماد عليه، وتجنب اللوازم الباطلة لمذهب من يعول على العقل أو الذوق دون الشرع، وتحقيق للإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ونجاة من مسالك أهل الأهواء الذين يتقدمون بين يدي الله ورسوله بعلومهم وعقولهم وأذواقهم، وحسم لمادة التقليد الباطلة، مع تحقيق الاجتماع والألفة ونبذ الاختلاف والفرقة. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص٣٤٣


(١) رواه ابن ماجه (٥)، وابن أبي عاصم في السنة (٤٩)، والبزار في ((البحر الزخار)) (١٠/ ٧٦). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال البزار: إسناده حسن. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (٦٨٨): وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات.
(٢) رواه ابن ماجه (٤٣) واللفظ له، وأحمد (٤/ ١٢٦) (١٧١٨٢). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، والحديث حسنه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (١/ ٦٨). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (٩٣٧): إسناده صحيح.
(٣) رواه مسلم (٢٦٢). من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه.
(٤) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (٥/ ٧ - ٨).
(٥) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (٣/ ٣٤٧).
(٦) ((شرح الصدور بتحريم رفع القبور)) للشوكاني (ص٥٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>