للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب التاسع: تواضع الآمر الناهي في أمره ونهيه]

ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون متواضعاً في أمره ونهيه من غير افتخار ولا تعاظم، بل من حقوق المسلمين التواضع لهم.

وسمي التواضع متواضعاً لأنه وضع شيئا من قدره الذي يستحقه – وذلك ملح العبادة – وغاية شرف الزاهدين، وسيما الناسكين.

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: ٥٤].

(أي متواضعين لهم بذل لين وانقياد، لا بذل هوان فيعاشروا المؤمنين برحمة وعطف وشفقة وإخبات وتواضع).

وقوله: أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ.

هو من عزة القوة والمنعة والغلبة.

وقال (عطاء) (للمؤمنين كالوالد لولده. وعلى الكافرين كالسبع على فريسته) (١) كما في الآية الأخرى: أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.

فالنفس إذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت إما إلى كبر وإما إلى ذل والعزة المحمودة بينهما، والله أعلم.

وقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: ٦٣] يعني سكينة ووقاراً متواضعين، غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين لأن الهون –بالفتح- الرفق واللين، وبالضم –الهوان.

فالأول صفة أهل الإيمان، والثاني صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران (٢).

قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: ٨٣]. الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: ٤٦٠

وفي (صحيح مسلم)، و (سنن أبي داود)، و (ابن ماجه) من حديث عياض بن حمار المجاشعي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفتخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) (٣).

قال أهل اللغة: (البغي التعدي والاستطالة).

قال أبو العباس بن تيمية – في (اقتضاء الصراط المستقيم) – جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين نوعي الاستطالة. لأن المستطيل إن استطال بحق فهو المفتخر. وإن استطال بغير حق فهو الباغي فلا يحل لا هذا ولا هذا (٤). الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: ٤٦٢

قال أبو حامد: فإن قلت كيف التواضع للفاسق والمبتدع وقد أمرت ببغضهما، والجمع بينهما متناقض (٥)؟

فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس على أكثر الخلق، إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق بكبر النفس، والإذلال بالعلم والورع، فكم من عابد جاهل, وعالم مغرور إذا رأى فاسقاً جلس إلى جانبه أزعجه ذلك.

وتنزه منه لكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه غاضب لله، وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شراً والحذر منه ممكن، والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله وهو خير، فإن الغضبان – أيضاً – يتكبر على من غضب عليه والمتكبر يغضب، وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه, وهما ممتزجان ملتبسان لا يميز بينهما إلا الموفقون.

والذي يخلصك من هنا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع, أو الفاسق, أو عند أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور:

أحدهما: التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك، ليصغر عند ذلك قدرك في عينك.

والثاني: أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم, واعتقاد الحق, والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله – تعالى – وله المنة لا لك فترى ذلك منه حتى لا تعجب نفسك، وإذا لم تعجب لم تتكبر.

والثالث: ملاحظة إيهام عاقبتك وعاقبته أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه. الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: ٤٦٧


(١) ((تفسير القرطبي)) تفسير المائدة آية ٥٤.
(٢) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (٢/ ٢٤٣).
(٣) رواه مسلم (٢٨٦٥)، وأبو داود (٤٨٩٥)، وابن ماجه (٣٣٨٧).
(٤) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية، فصل الفرق بين التشبيه بالكفار والشياطين والتشبه بالأعاجم، (ص: ١٤٨) ط دار الحديث.
(٥) ((الإحياء))، كتاب ذم الكبر والعجب، فضيلة التواضع (٣/ ٣٤٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>