للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام؟]

فهذه ثلاث مسائل تتعلق بما نحن بصدد بحثه من أحكام المعاصي وعصاة الموحدين.

المسألة الأولى: وهي من مسائل الأسماء والأحكام التي ضلت فيها أفهام كثيرة، إلا من عصمه الله تعالى بالتزام النصوص، كما هو حال أئمة الإسلام المهتدين، وهذه المسألة هي: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام، أو ينفى عنه مطلق الإيمان؟، وهل يلحقه الوعيد في الآخرة؟

أما الشطر الأول من المسألة وهو الوصف الشرعي لمرتكب المعصية، فإنه قد تقدم الاستدلال من كتاب الله تعالى على تسمية بعض العصاة مؤمنين، لكن هذا في مقابل من يرى كفر مرتكب المعصية.

أما عن حقيقة حالهم في مقابل أهل الإيمان الكامل، فإنه جاء في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: ٦]، فأهل العلم بالتفسير على أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة (١)، فلم يخرج من الدين بالكلية، ولم ينف عنه الإيمان مطلقا، كما لم يوصف به مطلقا، بل وصف بالفسق.

قال الشيخ الحكمي – رحمه الله -: (فاسق أهل القبلة لا ينفى عنه مطلق الإيمان بفسوقه، ولا يوصف بالإيمان التام، ولكن هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته) (٢).

وبهذا يتبين أن الذنوب والمعاصي لا تؤثر على أصل الإيمان من حيث بقاؤه أو ذهابه، وإنما تؤثر فيه من حيث زيادته ونقصانه. ولهذا تقرر أيضا أن المؤمنين يتفاضلون في إيمانهم، فمنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه ... ولكل درجة عند الله تعالى.

أما مسألة لحوق الوعيد بأهل المعاصي في الآخرة، فهذا مما دلت عليه نصوص الوعيد الكثيرة، من أمثال قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: ١٠]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: ٢٣]، وقوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: ٩٣]، وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: ١١٤].

إلا أن هذا مشروط بعدم التوبة؛ إذ أن التوبة من أهم الأسباب التي تسقط العقوبة عن عصاة الموحدين. فإذا عدمت التوبة، فأمرهم إلى الله عز وجل، إن شاء، عذبهم، وإن شاء، عفا عنهم.

قال محمد الطائي: أملى علي أحمد -أي: ابن حنبل-: (ومن لقيه مصرا غير تائب من الذنوب التي قد استوجب بها العقوبة، فأمره إلى الله، إن شاء، عذبه، وإن شاء، غفر له؛ إذا توفي على الإسلام والسنة) (٣).

والذي عليه أهل السنة هو: أن عصاة الموحدين وإن استحقوا العقوبة، فإنهم لا يخلدون في النار بفضل الله تعالى. وقد ذكر أهل العلم أن العصاة من الموحدين ثلاث طبقات يوم القيامة (٤):

الطبقة الأولى: قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم، فأولئك يدخلون الجنة من أول وهلة، ولا تمسهم النار أبدا.

الطبقة الثانية: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وتكافأت، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، وهؤلاء أصحاب الأعراف الذين ذكر الله تعالى أنهم يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله يوقفوا، ثم يؤذن لهم دخول الجنة.

الطبقة الثالثة: قوم لقوا مصرين على كبائر الإثم والفواحش، ومعهم أصل التوحيد، فرجحت سيئاتهم بحسناتهم. فهؤلاء تمسهم النار بقدر ذنوبهم، غير أنهم يخرجون منها بأحد الأسباب؛ كعفو الله تعالى أو شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهم قبل ذلك في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (يؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجب به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته) (٥). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد– ص: ٩٣


(١) انظر: ((محاسن التأويل)) للقاسمي (١٥/ ٥٤٤٧ - ٥٤٤٩).
(٢) ((معارج القبول)) (٢/ ٤١٧).
(٣) ((طبقات الحنابلة)) (١/ ٣١٠).
(٤) انظر: ((معارج القبول)) (٢/ ٤٢٢ - ٤٢٤)، ((طريق الهجرتين)) (ص: ٦٢٢ - ٦٢٥).
(٥) ((مجموع الفتاوى)) (٣/ ٣٧٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>