للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولاً: معنى اتخاذ القبور مساجد

الذي يمكن أن يفهم من هذا الاتخاذ، إنما هو ثلاثة معانٍ:

الأول: الصلاة على القبور، بمعنى: السجود عليها.

الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.

الثالث: بناء المساجد عليها، وقصد الصلاة فيها.

أقوال العلماء في معنى الاتخاذ المذكور:

وبكل واحدٍ من هذه المعاني قال طائفة من العلماء، وجاءت بها نصوص صريحة عن سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

أما الأول: فقال ابن حجر الهيتمي: واتخاذ القبر مسجداً معناه الصلاة عليه، أو إليه (١).

فهذا نصٌ منه على أنه يفهم الاتخاذ المذكور شاملاً لمعنيين، أحدهما: الصلاة على القبر.

وقال الصنعاني: واتخاذ القبور مساجد أعمّ من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها (٢).

... يعني أنه يعمّ المعنيين كليهما، ويحتمل أنه أراد المعاني الثلاثة، وهو الذي فهمه الإمام الشافعي رحمه الله، وسيأتي نص كلامه في ذلك، ويشهد للمعنى الأول أحاديث:

الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور، أو يقعد عليها، أو يصلى عليها)) (٣).

الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر)) (٤).

الثالث: عن أنس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور)) (٥).

الرابع: عن عمرو بن دينار - وسئل عن الصلاة وسط القبور - قال: ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى)) (٦).

وأما المعنى الثاني: فقال المناوي في (فيض القدير) - حيث شرح الحديث الثالث المتقدم -: أي اتخذوها جهة قبلتهم، مع اعتقادهم الباطل، وأن اتخاذها مساجد لازم لاتخاذ المساجد عليها كعكسه، وهذا بيّن به سبب لعنهم لما فيه من المغالاة في التعظيم. قال القاضي - يعني: البيضاوي -: لما كانت اليهود يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، فاتخذوها أوثاناً لعنهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه ...

... وهذا معنى قد جاء النهي الصريح عنه فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) (٧).

قال الشيخ علي القاري - معللاً النهي -: لما فيه من التعظيم البالغ كأنه من مرتبة المعبود، ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظِّم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم، وفي معناه بل أولى منه الجنازة الموضوعة - يعني قبلة المصلين - وهو مما ابتلي به أهل مكة حيث يضعون الجنازة عند الكعبة ثم يستقبلون إليها (٨) ....


(١) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (١/ ١٢١).
(٢) ((سبل السلام)) (١/ ٢١٤).
(٣) رواه ابن ماجه مختصرا (١٢٧٠)، وأبو يعلى في مسنده (٢/ ٢٩٧). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٣/ ٦٤): رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (ص٢٩): إسناده صحيح.
(٤) رواه الطبراني (١١/ ٣٧٦). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٢/ ٢٧): رواه الطبراني في ((الكبير)) وفيه عبدالله بن كيسان المروزي: ضعّفه أبو حاتم، ووثّقه ابن حبان. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (١٠١٦): الحديث صحيح.
(٥) رواه ابن حبان (٦/ ٩٣). وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (٦٨٩٣): صحيح.
(٦) رواه عبدالرزاق (١/ ٤٠٦) (١٥٩١). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (٢٩): وهو مرسل صحيح الإسناد.
(٧) رواه مسلم (٩٧٢). من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه.
(٨) انظر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) (٢/ ٣٧٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>