للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونحو الحديث السابق ما روى ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أصلي قريباً من قبر، فرآني عمر بن الخطاب، فقال: القبر القبر؛ فرفعت بصري إلى السماء وأنا أحسبه يقول: القمر! (١).

وأما المعنى الثالث: فقد قال به الإمام البخاري، فإنه ترجم للحديث الأول بقوله: (باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور) (٢).

فقد أشار بذلك إلى أن النهي عن اتخاذ القبور مسجداً يلزم منه النهي عن بناء المساجد عليه، وهذا أمر واضح، وقد صرح به المناوي آنفاً، وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجداً، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومها متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان، وإن تغاير المفهوم (٣).

وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها في آخر الحديث الأول: فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً (٤).

إذ المعنى فلولا ذاك اللعن الذي استحقه اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم القبور مساجد المستلزم البناء عليها، لجعل قبره صلى الله عليه وسلم في أرض بارزة مكشوفة، ولكن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك خشية أن يبنى عليه مسجد من بعض من يأتي بعدهم فتشملهم اللعنة.

ويؤيد هذا ما روى ابن سعد بسند صحيح عن الحسن وهو (البصري) قال: ائتمروا أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضعاً رأسه في حجري إذ قال: ((قاتل الله أقواماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قبض في بيت عائشة رضي الله عنها (٥).

... هذه الرواية - على إرسالها - تدل على أمرين اثنين:

أحدهما: أن السيدة عائشة فهمت من الاتخاذ المذكور في الحديث أنه يشمل المسجد الذي قد يدخل فيه القبر، فبالأحرى أن يشمل المسجد الذي بني على القبر.

الثاني: أن الصحابة أقرّوها على هذا الفهم، ولذلك رجعوا إلى رأيها فدفنوه صلى الله عليه وسلم في بيتها.

فهذا يدل على أنه لا فرق بين بناء المسجد على القبر، أو إدخال القبر في المسجد، فالكل حرام لأن المحذور واحد، ولذلك قال الحافظ العراقي: فلو بنى مسجداً يقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفة وقفه مسجداً (٦).

... وفي هذا إشارة إلى أن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام ...

ويشهد لهذا المعنى الحديث الخامس المتقدم بلفظ: ((أولئك قوم إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً ... أولئك شرار الخلق ... )) (٧).

فهو نص صريح في تحريم بناء المسجد على قبور الأنبياء والصالحين؛ لأنه صرح أنه من أسباب كونهم من شرار الخلق عند الله تعالى.

ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)) (٨).


(١) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (٤٢٧)، ورواه موصولاً عبدالرزاق في ((المصنف)) (١/ ٤٠٤) (١٥٨١) وزاد: ((إنما أقول القبر: لا تصل إليه)). وقال الألباني في ((النصيحة)) (١٤٣): أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً، وهو صحيح. وانظر: ((تغليق التعليق)) (٢/ ٢٢٨ - ٢٣٠) ففيه زيادة فائدة.
(٢) انظر: ((صحيح البخاري)) باب رقم (٦١).
(٣) انظر: ((فتح الباري)) (٣/ ٢٠١).
(٤) رواه مسلم (٥٢٩).
(٥) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (٢/ ٢٤١). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) - كما في (متن الموسوعة) -: سنده صحيح.
(٦) انظر: ((فيض القدير)) للمناوي (٥/ ٢٧٤).
(٧) رواه البخاري (٤٢٧)، ومسلم (٥٢٨). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٨) رواه مسلم (٩٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>