للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: جزاء مؤمنهم في الآخرة]

وأما بالنسبة لثواب مؤمنيهم في الآخرة:

فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أنه لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم: كونوا تراباً مثل البهائم. وهو قول أبي حنيفة، وحكاه سفيان الثوري عن الليث بن أبي سليم، وهو رواية عن مجاهد، وبه قال الحسن البصري.

قال ابن القيم: (وحكى عن أبي حنيفة وغيره أن ثوابهم نجاتهم من النار) (١). وقال الماوردي: (وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصاً منها، ثم يقال لهم: كونوا تراباً كالبهائم) (٢).

وقال القرطبي: (وقال أبو حنيفة: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم كونوا تراباً كالبهائم) (٣). وذكر الشوكاني عن أبي الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: (مسلمو الجن لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن أخرج أباهم من الجنة، فلا يعيده ولا يعيد ولده) (٤). وقال ابن نجيم: (واختلف العلماء في حكم مؤمن الجن: فقال قوم: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله) (٥). وعن الليث: (ثوابهم أن يجاروا من النار ثم يقال لهم: كونوا تراباً كالبهائم، وعن أبي الزناد كذلك) (٦). وقال الحسن: (ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار) (٧) وذكر القرطبي في رواية عن مجاهد أن الجن لا يدخلون الجنة وإن صرفوا عن النار (٨).

أدلة هذا الفريق:

استدل هذا الفريق بقوله تعالى إخباراً عن النفر من الجن الذين استمعوا القرآن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: ٣١].

ووجه استدلالهم بها: أن المغفرة للذنوب لا تستلزم الإثابة لأنه ستر، والإثابة بالوعد فضل (٩). وقال ابن القيم: (واحتج هؤلاء بهذه الآية فجعل غاية ثوابهم إجارتهم من العذاب الأليم) (١٠). والآية قد دلت على إجارتهم من النار ولم تذكر دخولهم الجنة، أو الثواب على أعمالهم.

القول الثاني: أنهم يثابون على الطاعة بدخول الجنة، على خلاف في حالهم فيها، نقله ابن حزم عن الجمهور، وممن قال به الضحاك وابن عباس، وهو قول الخليفة عمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب الأئمة: مالك, والشافعي, وأحمد, وأصحابهم (١١). وابن أبي ليلى, والأوزاعي، ورجحه القرطبي، وهو قول أكثر المفسرين.

القول الثالث: التوقف في المسألة.

قال الألوسي: (قال الكردي: وهو في أكثر الروايات. وفي فتاوى أبي إسحاق الصفار أن الإمام – أبا حنيفة – يقول: لا يكونون في الجنة ولكن في معلوم الله تعالى، لأنه لا استحقاق للعبد على الله تعالى، ولم يقل بطريق الوعد في حقهم إلا المغفرة والإجارة من العذاب، أما نعيم الجنة فموقوف على الدليل) (١٢). وقال القشيري: (والصحيح أن هذا – أي دخولهم الجنة – مما لم يقطع فيه بشيء والله أعلم) (١٣).

لكن الجمهور من المسلمين القائلين بثواب المؤمنين من الجن في الآخرة اختلفوا في كيفية الثواب؟:

١ - فقد ذهب الأكثرون منهم إلى أنهم في الجنة ويصيبون من نعيمها (١٤).


(١) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: ٤١٨).
(٢) ((أعلام النبوة)) (ص: ١٤٥).
(٣) ((تفسير القرطبي)) (١٦/ ٢١٧).
(٤) ((تفسير فتح القدير)) (٢/ ١٦٤).
(٥) ((الأشباه والنظائر)) (ص: ٣٣٠).
(٦) ((الأشباه والنظائر)) (ص: ٣٣٠).
(٧) ((تفسير القرطبي)) (١٦/ ٢١٧).
(٨) ((تفسير القرطبي)) (١٩/ ٥).
(٩) ((الأشباه والنظائر)) (ص: ٣٢٦).
(١٠) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: ٤٢٧).
(١١) ((مجموع الفتاوى)) (٤/ ٢٣٣).
(١٢) ((تفسير روح المعاني)) (٢٧/ ١٢، ٢٦/ ٣٢).
(١٣) ((تفسير القرطبي)) (١٦/ ٢١٧).
(١٤) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: ٤١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>