للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الرابع: حقيقة الميزان عند أهل السنة]

الميزان عند أهل السنة ميزان حقيقي توزن به أعمال العباد وخالف في هذا المعتزلة، وقلة قليلة من أهل السنة. قال ابن حجر: قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان، وقالوا: هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة، لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال، ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين. وقال ابن فورك: أنكرت المعتزلة الميزان، بناءً منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها. قال: وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى: يقلب الأعراض أجساماً فيزنها. انتهى. وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء، وعزا الطبري القول بذلك إلى مجاهد. والراجح ما ذهب إليه الجمهور. وذكر الميزان عند الحسن فقال: له لسان وكفتان (١). وعزا القرطبي تفسير الميزان بالعدل إلى مجاهد والضحاك والأعمش. ولعل هؤلاء العلماء فسروا الميزان بالعدل في مثل قوله تعالى: وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: ٧ - ٩]، فالميزان في هذه الآية العدل، أمر الله عباده أن يتعاملوا به فيما بينهم، أما الميزان الذي ينصب في يوم القيامة فقد تواترت بذكره الأحاديث، وأنه ميزان حقيقي، وهو ظاهر القرآن. وقد رد الإمام أحمد على من أنكر الميزان بأن الله تعالى: ذكر الميزان في قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: ٤٧]. والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الميزان يوم القيامة، فمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله عز وجل. وقد استدل شيخ الإسلام على أن الميزان غير العدل، وأنه ميزان حقيقي توزن به الأعمال بالكتاب والسنة، فقال: الميزان: هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى:: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [الأعراف: ٨]، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [الأعراف:٩]، وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: ٤٧]. وفي (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) (٢). وقال عن ساقي عبدالله بن مسعود: ((لهما في الميزان أثقل من أحد)) (٣). وفي الترمذي وغيره حديث البطاقة، وصححه الترمذي والحاكم وغيرهما في الرجل الذي يؤتى به، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيوضع في كفة، ويؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فطاشت السجلات وثقلت البطاقة)) (٤). وهذا وأمثاله مما يبين أن الأعمال توزن بموازين تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس، فهو ما به تبين العدل، والمقصود بالوزن العدل، كموازين الدنيا. وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب. وقد رد القرطبي على الذين أنكروا الميزان وأولوا النصوص الواردة فيه وحملوها على غير محملها قائلاً: قال علماؤنا: ولو جاز حمل الميزان على ما ذكروه، لجاز حمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان والأفراح، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، وهذا كله فاسد، لأنه رد لما جاء به الصادق، وفي (الصحيحين): ((فيعطى صحيفة حسناته)) (٥)، وقوله: فيخرج له بطاقة، وذلك يدل على الميزان الحقيقي، وأن الموزون صحف الأعمال كما بينا وبالله التوفيق. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص ٢٤٨


(١) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (٦/ ١١٧٣).
(٢) رواه البخاري (٦٤٠٦)، ومسلم (٢٦٩٤).
(٣) رواه أحمد (١/ ٤٢٠) (٣٩٩١)، وابن حبان (١٥/ ٥٤٦). قال أحمد شاكر في ((المسند)) (٦/ ٣٩): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (٢٧٥٠): إسناده حسن وهو صحيح بطرقه الكثيرة.
(٤) رواه الترمذي (٢٦٣٩)، وابن ماجه (٤٣٠٠)، وأحمد (٢/ ٢١٣) (٦٩٩٤)، والحاكم (١/ ٤٦). من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في (الصحيحين) وهو صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (١٣٥): وهو كما قالا.
(٥) رواه البخاري (٤٦٨٥)، ومسلم (٢٧٦٨). من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>