للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: الأدلة من النقل على ذم البدع]

وأمَّا النقل فمن وجوه:

(أحدها) ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة. فمن ذلك:

١ - قول الله تعالى: وأنَّ هذا صِراطِي مُسْتقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: ١٥٣] فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السُّنَّة، والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع. وليس المراد سبل المعاصي، لأنَّ المعاصي من حيث هي معاصٍ لم يضعها أحد طريقاً تُسْلك دائماً على مضاهاة التشريع. وإنَّما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات.

ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدَّثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال: ((خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً طويلاً، وخطَّ لنا سليمان خطاً طويلاً، وخطَّ عن يمينه وعن يساره فقال: هذا سبيلُ الله. ثم خطَّ لنا خطوطاً عن يمينه ويساره وقال: هذه سُبُل، وعلى كلِّ سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم تلا هذه الآية: وأنَّ هذا صِراطِي مُستَقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ -يعني الخطوط- فَتَفَرَّقَ بِكمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: ١٥٣])) (١).

قال بكر بن العلاء: أحسبُه أراد شيطاناً من الإنس وهي البدع والله أعلم.

وعن مجاهد في قوله: ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، قال: (البدع والشبهات) (٢).

٢ - قول الله تعالى: وعلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ ومِنْها جائِرٌ ولَوْ شَاءَ لهَداكُمْ أجْمَعِينَ [النحل: ٩] فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائرٌ عن الحق؛ أي عادلٌ عنه، وهي طرق البدع والضلالات، أعاذنا الله من سلوكها بفضله. وكفى بالجائر أن يحذَّر منه. فالمساق يدل على التحذير والنهي.

عن التستري: قصد السبيل طريق السُّنَّة، ومنها جائرٌ يعني إلى النار، وذلك الملل والبدع.

وعن مجاهد (قصد السبيل) أي: المقتصد منها بين الغلو والتقصير، وذلك يفيد أنَّ الجائر هو الغالي أو المقصِّر، وكلاهما من أوصاف البدع.

٣ - إنَّ الَّذِين فَرَّقوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْىءٍ إنَّما أَمْرُهُمْ إلىَ الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: ١٥٩].

قال ابن عطيَّة: (هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوءِ المعتقد) (٣)

قال القاضي (إسماعيل): ظاهر القرآن يدل على أنَّ كلَّ من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية؛ لأنَّهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعاً.

(الثاني): ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة تكاد تفوق الحصر، إلا أنَّا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقي ونتحرى في ذلك - بحول الله- ما هو أقرب إلى الصحة. فمن ذلك:


(١) [١٤٩٩٩])) رواه أحمد (١/ ٤٣٥) (٤١٤٢)، والدارمي (١/ ٢٣٢) (٢٠٨) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (٦/ ٣٤٣) (١١١٧٤)، وابن حبان (١/ ١٨٠) (٦)، والحاكم (٢/ ٣٤٨) بدون لفظة ((وخط لنا سليمان خطاً طويلاً)). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٧/ ٢٥): فيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (١/ ١٣١) كما قال ذلك في المقدمة.
(٢) [١٥٠٠٠])) رواه الطبري في تفسيره (١٢/ ٢٢٩).
(٣) [١٥٠٠١])) ((تفسير ابن عطية)) (٢/ ٤٢٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>