للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الرابع: بيان مُستَحِقِّها

الذي يستحق العبادة هو الله جل وعلا وحده دون غيره، فإن العبادة لا تكون إلا للخالق المنعم .... قال الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥] وهذا أسلوب يفيد الحصر والاختصاص (١)، ومعنى هذه الآية مركب من أمرين: نفي وإثبات، فالنفي: خلع جميع المعبودات بغير حق في جميع أنواع العبادات. والإثبات: إفراد الله تعالى وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع، فقوله: إِيَّاكَ يفيد الحصر: أي لا أحداً سواك، وهذا هو النفي، أما الإثبات ففي قوله: نعبد أي وحدك، وهذا المعنى يستفاد من آيات كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦] وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة: ٢١] فهذا إثبات، ثم ذكر النفي في آخر الآية التالية: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: ٢٢] ومنها قوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ [البقرة: ٢٥٦]. فالنفي في قوله: (فمن يكفر) والإثبات في قوله: (ويؤمن بالله) (٢).

ومن الآيات الدالة على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه قول الله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: ٨٧] والمعنى كما قال ابن جرير: (فأي وجه يصرفون عن عبادة الذي خلقهم ويحرمون إصابة الحق في عبادته!) (٣).

وبالجملة فإن العبادة: (لا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى) (٤) ....

وأما سببها الذي تستحق به فهو الاتصاف بصفات الكمال والتنزه عن النقص فالله هو الخالق لجميع الخلق والمسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة، وكلهم مفتقرون إليه ويرغبون نعمته وفضله، فالحاجة والرغبة في نعمته وفضله يبعثان على الانقياد لله والخضوع له (٥) وبه يعلم أن العبادة: (لا تستحق إلا بغاية الإنعام) (٦) وقال ابن كثير (إنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: ٢٢].) (٧) اهـ.

فلما كان هو المالك المتصرف في الأمور كيف شاء، كان له سبحانه أن يأمر بما يشاء وينهى، وإنه سبحانه قد أمر بعبادته وحده لا شريك له ونهى عن عبادة غيره.

ويدل على صحة ما ذكرته من السبب الذي تستحق به العبادة ما يذكره الله تعالى من أدلة دالة على استحقاقه وحده العبادة دون غيره، ومن ذلك: بيان أنه الخالق الرازق المنعم، وبيان أن غيره عاجز ضعيف لا يملك شيئاً، وبيان أن الأمر كله له شرعاً وجزاءً ... وبهذا يتضح سبب وقوع بعض الناس في الشرك بالله تعالى، وذلك لظنهم أن غير الله تعالى يكون منعماً بشيء استقلالاً أو له تأثير في التصرف ونحو ذلك فيقع في تعظيمه والخوف منه ورهبته ورجائه، وتلك هي عبادته.

والأدلة الدالة على استحقاق الله تعالى العبادة والسبب الذي استحق به العبادة كثيرة، وسأكتفي بذكر دليلين فقط – الأول: في أفضل سورة في القرآن، والثاني: في أعظم آية في القرآن.


(١) انظر: ((شرح الكوكب المنير)) (٣/ ٥٢١)، و ((أضواء البيان)) (١/ ٤١ - ٤٢).
(٢) انظر: ((أضواء البيان)) (١/ ٤١ - ٤٢).
(٣) ((تفسير الطبري)) (٢١/ ٦٥٥).
(٤) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب (ص: ٥٤٢).
(٥) انظر: ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص: ٨٨).
(٦) ((الفروق في اللغة)) لأبي هلال العسكري (ص: ٢١٥).
(٧) ((تفسير ابن كثير)) (١/ ٥٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>