للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تمهيد:]

من كان مذهبه أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه، يرى الاستثناء في الإيمان على اعتبار أنه لا يقطع بتكميل الإيمان وبالإتيان به على الدرجة العالية المطلوبة، بخلاف من يرى أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يزيد ولا ينقص، وأن أهله فيه سواء؛ فصاحب هذا القول يرى عدم جواز الاستثناء في الإيمان ويقطع بإيمانه، بل ويعد من استثنى في إيمانه شاكاً.

وبهذا يعلم مدى صلة هذه المسألة بمسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وإن كان الجميع يعد من مسائل الإيمان ومباحثه المهمة.

ومما يوضح قوة صلة هذه المسألة بسابقتها؛ أن هذه المسألة تبحث دائماً في كتب العقيدة تلو مسألة زيادة الإيمان ونقصانه للارتباط بين المسألتين ولتعلق نتائج كلٍّ بنتائج الأخرى، وهذا يعلم بمطالعة كتب العقيدة.

ثم بين المسألتين ارتباط من جهة أخرى؛ وهي أن كلتا المسألتين حدث الخوض فيهما بسبب الإرجاء الذي نشأ في الأمة بفعل أهل الأهواء، ولهذا ذمّ سلف الأمة الإرجاء وما يشتمل عليه من عقائد منحرفة، منها عدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه، ومنها القطع بالإيمان عند الله وبكمال الإيمان.

يقول محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: (احذروا رحمكم الله قول من يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، ومن يقول: أنا مؤمن عند الله، وأنا مؤمن مستكمل الإيمان، هذا كله مذهب أهل الإرجاء) (١).

ثم ساق بسنده إلى الأوزاعي أنه قال: (ثلاث هن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله تعالى) (٢).

وأول الخوض في مسألة الاستثناء هذه وسببه هم المرجئة، بل إن أصل الإرجاء وأُس نشأته هو ترك الاستثناء في الإيمان، كما قال عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله: (إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء) (٣)، وفي لفظ آخر له (أول الإرجاء ترك الاستثناء) (٤)، وفي لفظ ثالث له: (أصل الإرجاء من قال إني مؤمن) (٥).

ولهذا كان أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره يكرهون سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب عن ذلك؛ لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقاً بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق، لأنه يجزم بأنه مؤمن، ولا يجزم بأنه فعل كما أمر به.


(١) ((الشريعة)) للآجري (ص: ١٤٦).
(٢) ((الشريعة للآجري)) (ص: ١٤٦)، وذكره يحيى بن أبي الخير العمراني في كتابه: ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) (٣/ ٧٩٥).
(٣) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: ١٣٦)، وابن بطة في ((الإبانة)) (٢/ ٨٧١).
(٤) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٩٨).
(٥) رواه الطبري في ((تهذيب الآثار)) برقم (١٠٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>