إذا آمن العبد بأنَّ كل ما يصيبه مكتوب، وآمن أن الأرزاق والآجال بيد الله، فإنه يقتحم الصعاب والأهوال بقلب ثابت وهامة مرفوعة، وقد كان هذا الإيمان من أعظم ما دفع المجاهدين إلى الإقدام في ميدان النزال غير هيابين ولا وجلين، وكان الواحد منهم يطلب الموت في مظانه، ويرمى بنفسه في مضائق يظن فيها هلكته، ثم تراه يموت على فراشه، فيبكي إن لم يسقط في ميدان النزال شهيداً، وهو الذي كان يقتحم الأخطار والأهوال. وكان هذا الإيمان من أعظم ما ثبَّت قلوب الصالحين في مواجهة الظلمة والطغاة، ولا يخافون في الله لومة لائم، لأنهم يعلمون أن الأمر بيد الله، وما قدر لهم سيأتيهم. وكانوا لا يخافون من قول كلمة الحق خشية انقطاع الرزق، فالرزق بيد الله، وما كتبه الله من رزق لا يستطيع أحد منعه، وما منعه الله لعبد من عبيده لا يستطيع أحد إيصاله إليه. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص١١١
والإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائم، فتثبت في ساحات الجهاد ولا تخاف الموت، لأنها توقن أن الآجال محددة لا تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة.
ولما كانت هذه العقيدة راسخة في قلوب المؤمنين ثبتوا في القتال, وعزموا على مواصلة الجهاد، فجاءت ملاحم الجهاد تحمل أروع الأمثلة على الثبات والصمود أمام الأعداء مهما كانت قوتهم، ومهما كان عددهم، لقد أيقنوا أنه لن يصيب الإنسان إلا ما كتب له، سواء كان قاعداً في بيته، أو يتقلب في ساحات القتال من معركة إلى معركة، فكيف يجبن، وكيف يفر من القتال خوفاً من الموت، والموت إذا جاء سيأتيه على آية حال هو.
هكذا كان الأمر في حس المؤمنين فأقبلوا على القتال والجهاد في سبيل الله في ثبات وعزم ويقين، وكانت لهم بطولات ما عرفت في أمة من الأمم غيرهم.
وإذا قد وجد من المثبطين من المنافقين وغيرهم من يتخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدعياً أن السلامة في تخلفه، ومتربصاً بالمؤمنين الدوائر كان الرد عليهم يأتي من الله تعالى مبيناً أن المؤمنين يقومون بما أوجبه الله عليهم طاعة لله ورسوله, وهم يعتقدون أن كل ما يصيبهم قد جرت به المقادير, قال تعالى: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ [التوبة: ٥١ - ٥٢]، وحين قال المنافقون: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [آل عمران:١٥٤]، جاء الجواب: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا جاء الرد عليهم: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:١٥٤].
وهكذا وعى المؤمنون هذه الحقيقة فأيقنوا أنه لا يموت إلا من كتب عليه الموت، ولو كان في مضجعه في بيته، وأيقنوا أيضاً أنهم لا يرتقبون إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة ومنهم من نصره الله نصراً مبيناً.