للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثالث: استعمال الأقيسة العقلية الصحيحة اللائقة بالله تعالى]

لما كان (العقل) أحد مصادر المعرفة بما أودع الله فيه من قوة الاستدلال والنظر والمقايسة، جرى استعماله في إثبات العقائد لتأييد دلالة الشرع. وقد تضمن الكتاب والسنة جملة من (المقاييس العقلية) التي هي بمثابة مقدمات منطقية للوصول إلى النتائج التي جاء بها الشرع. ويعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأمثال المضروبة في القرآن (أقيسة عقلية) (١)، وبذلك يجمع بين الحسنيين باتفاق الدلالتين، دلالة العقل ودلالة الشرع. قال: (وإذا كان الشيء موجوداً في الشرع، فذلك يحصل بأن يكون في القرآن الدلالة على الطرق العقلية، والتنبيه عليها والبيان لها والإرشاد إليها. والقرآن ملآن من ذلك، فتكون شرعية بمعنى أن الشرع هدى إليها، عقلية بمعنى أنه يعرف صحتها بالعقل، فقد جمعت وصفي الكمال).

وقد قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: ١٧]، وقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: ٢٥]، وقد فسر السلف (الميزان) بالعدل. والعدل يقتضي التسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات.

ومن المقاييس العقلية الصحيحة المتعلقة بباب الصفات ما يلي:

١ - إثبات الكمال لله ونفي النقص عنه:

وهذه قضية يستقل العقل بالحكم بها موافقاً بذلك دلالة الشرع والفطرة. وخلاصتها أن كل (موجود) في خارج الذهن لا بد أن يكون متصفاً بصفة. وهذه الصفة إما أن تكون صفة كمال أو صفة نقص. وصفة النقص ممتنعة في حق الإله المعبود، واللائق به الكمال. ومن جهة أخرى فإن المشاهدة والحس تدل على ثبوت صفات كمالية للمخلوق. والله خالق المخلوق وصفاته، فواهب الكمال أولى بالكمال.

تلك المقدمات، وهذه النتيجة، محل اتفاق بين جميع أرباب الملل والنحل، وجمهور أهل الفلسفة والكلام، لكنهم يختلفون في تحقيق مناطها في أفراد الصفات مع الإجماع على أن الرب المعبود مستحق للكمال، منزه عن النقص (٢).

ويفصل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الجملة العقلية بقوله: (فإذا قيل: (الوجود) إما واجب وإما ممكن، والممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين، فهو مثل أن يقال: الموجود إما (قديم) وإما حادث؛ والحادث لابد له من قديم، فيلزم ثبوت القديم على التقديرين.

والموجود إما (غني) وإما (فقير)، والفقير لا بد له من الغني، فلزم وجود الغني على التقديرين. والموجود إما (قيوم بنفسه) وإما (غير قيوم)، وغير القيوم لابد له من القيوم، فلزم ثبوت القيوم على التقديرين. والموجود إما (مخلوق) وإما (غير مخلوق)، والمخلوق لابد له من خالق غير مخلوق، فلزم ثبوت الخالق غير المخلوق على التقديرين، ونظائر ذلك متعددة) (٣).


(١) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (٣/ ٨٨).
(٢) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٦/ ٦٨ - ٨٨).
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (٦/ ٧٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>