للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث السابع: حكمة الله تعالى في وزن أعمال العباد والرد على من ينكره]

كل مسلم يعلم أن الله تعالى حكيم عليم, يفعل ما يشاء لحكمة, وقد يعرف الناس بعض الجوانب من الحكم, وقد تخفى عليهم, وإذا كان الناس ينزهون العقلاء من بني آدم عن إتيانهم أعمالاً لاحكمة فيها ولا فائدة من ورائها, فكيف بالله سبحانه وتعالى؟!

وليس من صفات المسلم الحق أن يرد ما أخبر الله به, أو يتأوله بما يبطل المراد منه.

ومن ذلك أمر الميزان, فقد أخبر الله به, وأخبر به رسول صلى الله عليه وسلم فيجب الإيمان بذلك, وأن لله حكمة عظيمة في نصبه يوم القيامة, من أعظمها وأجلها: إظهار أقصى كمال عدله جل وعلا بين عباده, حتى لايساوى المحسن والمسيء, وليظهر التفاوت بين البشر جلياً واضحاً, يقتنع كل مخلوق بذلك كما يقتنعون بما يرجحه الميزان في الدنيا, ولو شاء الله أن لا يقيم ميزان ويأخذ العباد بما يعلمه سبحانه من أعمالهم الطيبة أوالخبيثة؛ لما كان في ذلك أي نقص على العباد ولا هضم لحق أي مخلوق: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: ١٤].

لكن الله تعالى لم يشأ ذلك, بل أراد أن يعلم العباد بأعمالهم بما يقتنعون به هم أنفسهم, وحتى لا يبقي حجة ولا اعتراض لمعترض, ولله الحجة البالغة.

وفي بيان حكمة الله في إقامة الميزان يقول الثعلبي بأن الحكمة في ذلك: تعريف الله عباده عدد مالهم عنده من الجزاء من خير أوشر (١).

وقال الشيخ مرعي – فيما ينسبه إليه السفاريني -: بل الحكمة فيه: إظهار العدل وبيان الفضل، حيث إنه يزن مثاقيل الذر من خير أو شر إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: ٤٠] (٢).

ويقول البرديسي: وحكمة الوزن ليبين ما يستحقه من العذاب وما يكون فيه من درجات الجنة (٣).

ويقول القاضي عبد الجبار – من كبار المعتزلة – عن فائدة وضع الموازين: وأما فائدته: فهو تعجيل مسرة المؤمن وغم الكافر, هذا في القيامة, وفيه فائدة أخرى تتعلق بالتكليف: وهي أن المرء مع علمه أن أعماله توزن على الملأ؛ كان عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات, وهذه فائدة عظيمة (٤).

ويقول الطبري في رده على من ينكر الميزان والحكمة منه: فإن أنكر ذلك جاهل بتوجيه معنى (٥). خبر الله عن الميزان وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنه وجهته (٦). وقال أوبالله حاجة إلى وزن الأشياء وهو العالم بمقدار كل شيء قبل خلقه إياه, وبعده, وفي كل حال؟ أو قال: وكيف توزن الأعمال والأعمال ليس بأجسام توصف بالثقل والخفة؟ وإنما توزن الأشياء ليعرف ثقلها من خفتها، وكثرتها من قلتها، وذلك لا يجوز إلا على الأشياء التي توصف بالثقل والخفة والكثرة والقلة, قيل له في قوله: وما وجه وزن الله الأعمال وهو العالم بمقاديرها قبل كونها: وزن نظير إثباته إياه في أم الكتاب واستنساخه ذلك في الكتاب من غير حاجة إليه ومن غير نسيانه، ليكون ذلك حجة على خلقه كما قال جل ثناؤه في تنزيله: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِهَا اليوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ [الجاثية: ٢٨ - ٢٩].


(١) ((لوامع الأنوار)) (٢/ ١٨٨).
(٢) ((لوامع الأنوار)) (٢/ ١٨٨).
(٣) ((تكملة شرح الصدور)) (ص ٢٩).
(٤) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص ٧٣٦).
(٥) هكذا العبارة في الكتاب المشار إليه ولعل معناها فإن أنكر ذلك جاهل بالمراد من معنى خبر الله عن الميزان.
(٦) هكذا العبارة في الكتاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>