للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تمهيد:]

لا بدَّ للباحث في أمر الإنسان بعد موته من إعطاء فكرة عن الروح التي تنعم أو تعذب بعد موتها، ما هي؟ وهل لها كيفية تعلم؟ وهل هي جزء من البدن، أم شيء آخر غير البدن؟ فإن كانت غيره فأين مسكنها فيه؟ وهل هي مخلوقة؟ وهل هي واحدة في الإنسان أم متعددة؟ وهل تموت الأرواح، وكيف موتها؟ وأين مستقرها في البرزخ، وهل تعلم الأرواح شيئاً عما يجري في الدنيا من البرزخ؟ يقول ابن تيمية: (والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت) (١)، وقد أخطأ الذين فرقوا بين الروح والنفس واعتقدوا أنهما أمران مختلفان، ومن تأمل ... علم أن النفس هي التي تقبضها الملائكة، وتصعد بها إلى السماء، وتعود بها إلى الجسد، وتسأل، وتنعم وتعذب، وهي الروح أيضاً التي إذا خرجت من الجسد تبعها البصر كما ثبت في الأحاديث.

وهذا المخلوق الذي تكون به الحياة، وتفقد الحياة بفقده يسمى روحاً ونفساً، ولا يمنع هذا أن تطلق كل من الروح والنفس إطلاقات أخرى، يقول ابن تيمية: (لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان: فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق، وهو الذي تسميه الأطباء الروح، ويسمى الروح الحيواني، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس، ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه، وقد يراد بلفظ النفس الدم الذي يكون في الحيوان، كقول الفقهاء: " ماله نفس سائلة، وما ليس له نفس سائلة " فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح) (٢).

وتطلق الروح أيضاً على جبرائيل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: ١٩٣]، وتطلق على القرآن وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا [الشورى: ٥٢].

ويلاحظ شارح الطحاوية أن الروح والنفس وإن أطلقا على تلك اللطيفة الربانية، إلا أن (غالب ما يسمى نفساً إذا كانت الروح متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها) (٣).

ويقول ابن تيمية في هذا: (لكن تسمى نفساً باعتبار تدبيره للبدن، وتسمى روحاً باعتبار لطفه، ولهذا يسمى الريح روحاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الريح من روح الله)) (٤) أي: من الروح التي خلقها الله (٥).

لما كنت الروح مخلوقة من جنس لا نظير له في عالم الموجودات فإننا لا نستطيع أن نعرف صفاتها، فقد عرفنا الله أنها تصعد وتهبط، وتسمع وتبصر وتتكلم إلى غير ذلك، إلا أن هذه الصفات مخالفة لصفات الأجسام المعروفة، فليس صعودها وهبوطها وسمعها وبصرها وقيامها وقعودها من جنس ما نعرفه ونعلمه، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروح يصعد بها إلى السماوات العلى، ثم تعاد إلى القبر، ساعة من الزمن، وقد أخبرنا أنها تنعم أو تعذّب في القبر، ولا شك أن هذا النعيم على نحو مخالف لما نعلمه ونعرفه. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - بتصرف- ص ٨٥


(١) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (٩/ ٢٨٩).
(٢) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (٩/ ٢٩٢).
(٣) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: ٤٤٤).
(٤) رواه أبو داود (٥٠٩٧)، وأحمد (٢/ ٢٦٧) (٧٦١٩)، وابن حبان (٣/ ٢٨٧) (١٠٠٧)، والحاكم (٤/ ٣١٨). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسن إسناده النووي في ((المجموع)) (٥/ ٩٧)، وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (٤/ ٢٧٢): حسن صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا ثابت بن قيس.
(٥) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (٩/ ٢٩٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>