[المبحث الخامس: دخول الأعمال في هذه المراتب الثلاثة]
فكما سبق إجماع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، وهذا يشتمل مراتب الإيمان الثلاثة وسبق أيضا أن الإيمان إذا أطلق فالمراد به الدين كله وهو يشمل على شعب وهذه الشعب جامعة لكل أمور الإيمان الواجبات والمنهيات فصار الإيمان بهذه الشعب مشتملا على جميع الطاعات فرضها ونفلها، مما يجب على القلب واللسان والجوارح، على ترك المحظورات المحرمة منها والمكروهة ولكن هذه الشعب تتفاوت، فمنها ما يدخل في أصل الإيمان فلا يصح الإيمان إلا به ومنها ما يدخل في الإيمان الواجب ومنها ما يدخل في الإيمان المستحب ...
أما أصل الإيمان فإنه يشتمل على شعب ولا يصح إلا باكتمالها وهي:
على القلب: معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالا والتصديق والانقياد له وتواطؤ القلب مع اللسان في الإقرار بوحدانية الله والخضوع والمحبة مع الرضا والتسليم والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لطاعته وعدم معاندته به.
وعلى اللسان: الإقرار بالشهادتين وما يتوقف على اللسان من الأعمال الداخلة في أصل الإيمان كأذكار الصلاة مثلا.
وعلى الجوارح: ما يكفر تاركها كالصلاة أو مانعها كالزكاة بإجماع الصحابة وما سواهما محل خلاف بين العلماء. إضافة إلى البراءة من الشرك وأهله والتجرد من المكفرات وكل ما يناقض الإيمان من قول أو فعل أو اعتقاد مكفر.
وضابط دخول الأعمال في أصل الإيمان: (أن كل طاعة يكفر تاركها ففعلها من أصل الإيمان كالتصديق والإقرار والانقياد القلبي والصلاة، وكل محرم يكفر فاعله فتركه من أصل الإيمان؛ كالاستهزاء بالدين والدعاء والاستغاثة بغير الله والحكم بغير شرع الله والتحاكم إلى الطاغوت وغيره) ... وأن ضد أصل الإيمان الكفر، فلا يجتمع أصل الإيمان، مع ما يناقضه من الأمور المكفرة.
وأما الإيمان الواجب: فكل الشعب الواجبة داخلة فيه إضافة إلى شعب أصل الإيمان وضابط ما يدخل في الإيمان الواجب من الأعمال سواء كان فعلا أو تركا: أن كل عمل ورد في تركه وعيد ولم يكفر تاركه ففعله من الإيمان الواجب.
وكل عمل ورد في فعله وعيد ولم يبلغ حد الكفر فتركه من الإيمان الواجب (كترك الفواحش والموبقات من الزنا والربا والسرقة وشرب الخمر والكذب والغيبة والنميمة والقذف وأكل أموال الناس بالباطل وإيذاء الجار .. وغير ذلك).
ومما يدخل في حكم الواجب، ما يتعين تعلمه من العلم بالواجبات والنواهي التي تدخل في أصل الإيمان والإيمان الواجب وكذا وجوب تعلم كل واجب آن أوان الشروع فيه؛ كقاصد الحج عند حلول موسمه، والنكاح عند إرادته وهكذا جميع الواجبات يجب على المرء العلم بشروطها وأركانها ومفسداتها قبل الشروع فيها، وهذا يدخل ضمن الفرض العيني على عوام المسلمين لا ينبغي التفريط فيه فإن التقصير في تعلم ذلك قد يوجب الكفر والعياذ بالله إذا كان يسبب جهلا بأصل الإيمان ونواقضه، ومفسقا إذا كان بسبب جهلا بالمحرمات والمنهيات، وفسادا لصحة العبادات إذا كان جهلا بنواقضها ومفسداتها.
وأما الإيمان المستحب: فيشمل على جميع شعب الإيمان المستحبة من نوافل العبادات والطاعات مما لم يوجبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فكل ما سوى الواجبات فهو من الإيمان المستحب.
وضابط دخول الأعمال فعلا كانت أو تركا – أن كل عمل رغب فيه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورتب عليه الثواب الجزيل ولم يرد وعد في تركه بعقوبة فهو من الإيمان المستحب.
وكذلك كل فعل نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نهيا لم يصل إلى حد التحريم كالمكروهات فتركها من الإيمان المستحب ودليل على ورع تاركه وشدة التزامه بأوامر الشرع وعلو إيمانه.
إضافة إلى أن ترك الأمور المشتبهة التي يشتبه فيها الحلال والحرام من الإيمان المستحب، فالذين يريدون المراتب العلية وبلوغ مرتبة الكمال المستحب يبتعدون عن كل شيء يشم منه رائحة الحرام من قريب أو بعيد ويدعون ما لا بأس به خشية ما فيه بأس ورعا في نفوسهم وزهدا في الدنيا وملذاتها وشهواتها، فهؤلاء هم أصحاب النفس المطمئنة الذين اطمأنت نفوسهم لما عند الله وصرفوا عينهم عن متاع الدنيا فقد شغلتهم الآخرة عن الدنيا، فلا هم لهم إلا نيل رضا الله وجزيل ثوابه وهم مع ذلك يتركون ما ينافي الكمال المستحب من أمور الاعتقاد والسلوك كطلب التداوي لما فيه من منافاة التوكل وكلية الاعتماد على الله والسؤال عند الحاجة وعدم إظهار الشكوى والضجر لما فيه من الإخلال بالصبر الجميل، ومن نظر إلى سير هؤلاء الصالحين وعباد الله الصادقين رأى العجب العجاب من أخبار القوم نسأل الله أن يجمعنا بهم وأن يحشرنا في زمرتهم وأن يوفقنا للاقتداء بهم إنه ولي ذلك والقادر على كل شيء .. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني- بتصرف- ٤٠٥