قال الإمام ابن القيم:(والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاؤها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها – أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها – وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي تقع على القلب والجوارح:
(١) فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة تثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً.
(٢) علمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح. ومعرفة غناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.
(٣) وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباتها، وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها. فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العلم وآثارها ومقتضاها؛ لأنه لا يتزين من عباده بطاعتهم، ولا تشينه معصيتهم. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى:((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) ذكر هذا عقب قوله: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)) (١). فتضمن ذلك أن يفعله تعالى بهم في غفران زلاتهم وإجابة دعواتهم، وتفريج كرباتهم ليس لجلب منفعة منهم ولا لدفع مضرة يتوقعها منهم؛ كما هو عادة المخلوق الذي ينفع غيره ليكافئه بنفع مثله، أو ليدفع عنه ضرراً، فالرب تعالى لم يحسن إلى عباده ليكافئوه، ولا ليدفعوا عنه ضرراً، فقال:((لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني))، إني لست إذا هديت مستهديكم، وأطعمت مستطعمكم، وكسوت مستكسيكم وأرويت مستسقيكم، وكفيت مستكفيكم وغفرت لمستغفركم، بالذي أطلب منكم أن تنفعوني أو تدفعوا عني ضرراً، فإنكم لن تبلغوا ذلك وأنا الغني الحميد، كيف والخلق عاجزون عما يقدرون عليه، من الأفعال إلا بإقداره وتيسيره وخلقه، فكيف بما لا يقدرون عليه، فكيف يبلغون نفع الغني الصمد الذي يمتنع في حقه أن يستجلب من غيره نفعاً، أو يستدفع منه ضرراً، بل ذلك مستحيل في حقه؟!
(١) رواه مسلم (٢٥٧٧). من حديث أبي ذر رضي الله عنه.