للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثاني: كيفية الإنكار على السلطان]

إذا كان المحتسب عليه من الولاة الذين يحكمون بشرع الله فإن لأهل السنة منهجاً في التعامل معهم .. فلا يرون التشهير بهم على المنابر والمجامع العامة لما يوقع ذلك من الفتنة .. وقد قيل لأسامة بن زيد –رضي الله عنه- (ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟! فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم!! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه) (١). وفي لفظ للبخاري: (إنكم لترون أني لا أكلمه! إلا أسمعكم؟! إني أكلمه في السر ... ) (٢).

وقال ابن أبي عاصم (باب كيف نصيحة الرعية للولاة) ثم أخرج بسنده عن شريح بن عبيد قال: قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم: ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه وإلا كان قد أدى ما عليه)) (٣).

وأخرج أحمد بسنده عن سعيد بن جهمان قال: (أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه .. قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم. قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: ويحك يا ابن جهمان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه) (٤) وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله- لا يحدث بالأحاديث التي توهم بجواز الخروج على الأئمة.

وقال ابن القيم –رحمه الله-: (ومن دقيق الفطنة: أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ، وذلك خطأ ثان، ولكن تلطف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره) ا. هـ (٥).

وقال النووي عند كلامه على حديث أسامة: (يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان –رضي الله عنه- وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقوله الناس فيهم لينكفوا عنه.

وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يكن الوعظ سراً والإنكار، فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق) (٦) ا. هـ.

ولا يفهم من هذا ترك إنكار المنكرات المتفشية .. رسمية كانت أو غير رسمية .. كما لا يعني هذا عدم فضح خطط الفساد والمفسدين .. وكشف أحابيلهم ومكائدهم.

أما الولاة الذين لا يحكمون بالشرع ويحاربون الإسلام وأهله فإن لكل حالة لبوسا.

... إليك بعض النماذج مما حفظه لنا التاريخ من إنكار أهل العلم ومن سلك سبيلهم على ذوي النفوذ من السلاطين وأعوانهم:

النموذج الأول: خبر أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- مع مروان حينما أراد مروان أن يخطب يوم العيد قبل الصلاة. والقصة مشهورة.

النموذج الثاني: نقل ابن كثير –رحمه الله- أن الحجاج خطب يوماً فقال: (إن ابن الزبير غير كتاب الله. فقال ابن عمر: ما سلطه الله على ذلك، ولا أنت معه، ولو شئت أقول: كذبت لفعلت) (٧).


(١) رواه مسلم (٢٩٨٩).
(٢) رواه البخاري (٣٢٦٧).
(٣) رواه أحمد (٣/ ٤٠٣) (١٥٣٦٩)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (٣/ ١٠٢) (٩١٠)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (٢/ ٩٤) (٩٧٧). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٥/ ٢٣٢): رواه أحمد ورجاله ثقات، إلا أني لم أجد لشريح من عياض وهشام سماعاً وإن كان تابعياً، وصححه الألباني في ((تخريج كتاب السنة)).
(٤) رواه أحمد (٤/ ٣٨٢) (١٩٤٣٤). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٦/ ٢٣٥): رجال أحمد ثقات، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (٥٤٢).
(٥) ((الطرق الحكمية)) (ص: ٥٤).
(٦) ((النووي على مسلم)) (٩/ ١٨/١١٨).
(٧) ((البداية والنهاية)) (٩/ ١٢١)، ((نزهة الفضلاء)) (١/ ٢٦٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>