إذا كان الناس في القديم يجادلون الرسل، ويرفضون علومهم، ويعرضون عنهم فإن البشر اليوم في القرن العشرين – حيث بلغت البشرية ذروة التقدم المادي، فغاصت في أعماق البحار، وانطلقت بعيداً في أجواز الفضاء، وفجرت الذرة، وكشفت كثيراً من القوى الكونية الكامنة في هذا الوجود – أشدُّ جدالاً للرسل، وأكثر رفضاً لعلومهم، وأعظم إعراضاً عنهم، وحال البشر اليوم من الرسل وتعاليمهم كحال الحمر المستنفرة حين ترى الأسد فتفرّ لا تلوي على شيء، قال تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: ٤٩ - ٥١].
والبشر – اليوم – يأبون أكثر من قبل التسليم للرسل وتعاليمهم اغتراراً بعلومهم، واستكباراً عن متابعة رجال عاشوا في عصور متقدمة على عصورهم ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن: ٦].
واليوم ينفخ شياطين الإنس في عقول البشر يدعونهم إلى التمرد على الله وعلى شريعة الله، ورفض تعاليم الرسل، بحجة أنَّ في شريعة الله حجراً على عقولهم، وتوقيفاً لركب الحياة، وتجميداً للحضارة والرقي ّ، وقد أقامت الدول اليوم نظمها وقوانينها وتشريعاتها على رفض تعاليم الرسل، بل إنَّ بعض الدول تضع الإلحاد مبدأ دستورياً، وهو الذي يسمى بالعلمانية، وكثير من الدول التي تتحكم في رقاب المسلمين تسير على هذا النهج، وقد ترضي عوامّ الناس بأن تضع مادة في دستورها تقول: دين الدولة الإسلام، ثمَّ تهدم هذه المادة بالموادّ السابقة واللاحقة، والتشريعات التي تحكم العباد.
فهل صحيح أنَّ البشرية بلغت – اليوم – مبلغاً يجعلها تستغني عن الرسل وتعاليم الرسل؟ وهل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيداً عن منهج الرسل؟ يكفي في الإجابة أن ننظر في حال تلك الدول التي نسميها متقدمة متحضرة كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين – لنعلم مدى الشقاء الذي يغشاهم، نحن لا ننكر أنَّهم بلغوا في التقدّم المادي شأواً بعيداً، ولكنّهم في الجانب الآخر الذي جاء الرسل وجاءت تعاليمهم لإصلاحه انحدروا انحداراً بعيداً.
لا ينكر أحد أنَّ الهموم والأوجاع النفسية والعقد النفسية – اليوم – سمة العالم المتحضر، الإنسان في العالم المتحضر اليوم فقد إنسانيته، خسر نفسه، ولذلك فإن الشباب هناك يتمردون، يتمردون على القيم والأخلاق والأوضاع والقوانين، أخذوا يرفضون حياتهم التي يعيشونها، وأخذوا يتبعون كل ناعق من الشرق أو الغرب يلوِّح لهم بفلسفة أو دروشة أو سفسطة يظنون فيه هناءهم، لقد تحوّل عالم الغرب إلى عالم تنخر الجريمة عظامه، وتقوده الانحرافات والضياع، لقد زلزلت الفضائح أركان الدول الكبرى، والخافي أعظم وأكثر من البادي، إن الذين يسمّون – اليوم – بالعالم المتحضر يخربون بيوتهم بأيديهم، حضارتهم تقتلهم، حضارتهم تفرز سموماً تسري فيهم فتقتل الأفراد، وتفرق المجتمعات، الذين نسميهم اليوم بالعالم المتحضر كالطائر الجبّار الذي يريد أن يحلق في أجواز الفضاء بجناح واحد. إننا بحاجة إلى الرسل وتعاليمهم لصلاح قلوبنا، وإنارة نفوسنا، وهداية عقولنا ... ونحن بحاجة إلى الرسل كي نعرف وجهتنا في الحياة، وعلاقتنا بالحياة وخالق الحياة. نحن بحاجة إلى الرسل كيلا ننحرف أو نزيغ فنقع في المستنقع الآسن. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص ٢٩