للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثالث: ما ورد من الذنوب تسميته كفرا، أو فيه نفي الإيمان عن صاحبه أو البراءة منه]

وذلك أمثال قوله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (١)، وقوله: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) (٢)، وقوله: ((ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)) (٣)، وقوله: ((من حمل علينا السلاح، فليس منا، ومن غشنا، فليس منا)) (٤)، وغيرها من النصوص الكثيرة.

قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: (إن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع: فاثنان منها فيها نفي الإيمان والبراءة من النبي صلى الله عليه وسلم، والآخران فيها تسمية الكفر وذكر الشرك، وكل نوع من هذه الأحاديث تجمع أحاديث ذوات عدة) (٥).

لقد كان للأئمة وأهل العلم من أهل السنة عدة أقوال في توجيه هذه الآثار التي ظاهرها نفي الإيمان عن المعاصي أو التبرؤ منه. وبتتبع أقوالهم يتبين اتفاقهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية؛ وذلك لثبوت الحدود الشرعية في بعض تلك الكبائر المنصوص عليها مثلا، مما يجعلنا نقطع بعدم إرادتهم الكفر المخرج أن الزاني والسارق وشارب الخمر لا يقتل – إلا الزاني المحصن -، بل يقام عليه الحد، مما يدل على أنه ليس بمرتد.

عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فقال: ((تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، فمن وفّى منكم أجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستر الله عليه، فهو إلى الله عز وجل إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)) (٦).

وأهم الأقوال الواردة في توجيه هذه النصوص على مذهبين:

أولا: مذهب من رأى التوقف عن تفسير هذه الأحاديث وإمرارها كما جاءت. وهذا مروي عن جمع من الأئمة وأهل العلم، منهم:

١ - الإمام الزهري: فقد قال لما سئل عنها: (من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) (٧).

٢ - الإمام أحمد: قال في حديث: ((من غشنا فليس منا)): (يروى الحديث كما جاء، وكما روى تصدقه وتقبله، وتعلم أنه كما روي ... فاتبع الأثر ولا تجاوزه) (٨)، وقال: (لا أدري إلا على ما روي) (٩).

٣ - الإمام البغوي: قال: (القول ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والعلم عند الله عز وجل) (١٠).

ثانيا: مذهب من فسر هذه الأحاديث، ورأى أن المقصود بنفي الإيمان إنما هو نفي كماله، لا أصله وحقيقته. وعلى هذا القول كثير من الأئمة والعلماء، منهم:

١ - الإمام الطبري: حيث قال: (ينزع عنه اسم المدح الذي سمى الله به أولياءه، فلا يقال في حقه مؤمن، ويستحق اسم الذم، فيقال: سارق وزان وفاجر وفاسق). وهذا القول مروي عن الحسن البصري كذلك (١١).

٢ - أبو عبيد القاسم بن سلام: حيث قال: (الذي عندنا في هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً ولا توجب كفرا، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله) (١٢).


(١) رواه البخاري (٤٨)، ومسلم (٦٤). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(٢) رواه البخاري (٤٤٠٢)، ومسلم (٦٦). من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(٣) رواه مسلم (٦٧). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) رواه مسلم (١٠١). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥) ((الإيمان)) لأبي عبيد (ص: ٨٤).
(٦) رواه البخاري (٦٧٨٤)، ومسلم (١٧٠٩).
(٧) ((السنة للخلال)) (ص: ٥٧٩).
(٨) ((طبقات الحنابلة)) (١/ ٢٧).
(٩) ((السنة للخلال)) (ص: ٥٧٨).
(١٠) ((شرح السنة)) (١/ ٩١).
(١١) ((فتح الباري)) (١٢/ ٦٠).
(١٢) ((الإيمان)) (ص: ٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>