للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثالث: دعوى أن التفويض هو الطريق الأسلم]

درج المفوضة والمتكلمة من الأشاعرة على وصف مذهب التفويض بـ (السلامة) مبررين بذلك – حسب فهمهم الخاطئ – اختيار السلف لهذا السبيل لكونهم أقرب إلى الورع والاحتياط في الدين. وانساق كثير من الناس وراء هذا التبرير الذي يظهر منه – بادئ الرأي – إجلال السلف، وإضفاء مسحة الورع عليهم بتعظيمهم لجانب الرب، وعدم الخوض في هذه المزالق.

وصار بعض من ينتحل السلف ومذهبهم يلوح بهذه اللافتة (السلامة) للترويج لمذهب التجهيل. ولما كانت (السلامة) كلمة مقابلة لكلمة (الهلاك) أو حتى كلمة (المخاطرة) فقد استمالت النفوس والقلوب طلباً للحذر من الوقيعة في مقام دحض مزلة.

فاجتمع في دعوى التفويض المزعومة أمران حبيبان إلى النفوس:

- نسبته إلى السلف ...

- تضمنه للسلامة المنافية للخطر والهلكة.

ولذلك قيل: (مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم).

وقد تتابع المتأخرون على ترديد هذه المقالة بلفظها أو مضمونها ...

- قول بدر الدين بن جماعة: ت ٧٢٧هـ: (وقد رجح قوم من الأكابر الأعلام قول السلف لأنه أسلم، وقوم منهم قول أهل التأويل للحاجة إليه) (١).

- وقال سعد الدين التفتازاني (ت٧٩٣هـ) بعد ذكر نصوص الصفات: (إنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظواهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله – تعالى -، مع اعتقاد حقيقتها، جرياً على الطريق الأسلم الموافق للوقف على (إلا الله) في قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، أو تأول تأويلات مناسبة موافقة لما دلت عليه الأدلة العقلية على ما ذكر في كتب التفسير، وشروح الحديث سلوكاً للطريق الأحكم, الموافق للعطف في (إلا الله، والراسخون في العلم)) (٢).

- قول أحمد الدردير (ت ١٢٠١هـ: (وأجاب أئمتنا، سلفهم، بأن الله تعالى منزه عن صفات الحوادث، مع تفويض معاني هذه النصوص إليه تعالى إيثاراً للطريق الأسلم: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، وخلفهم، بتعيين محامل صحيحة إبطالاً لمذهب الضالين، وإرشاداً للقاصدين .. نظراً إلى الطريق الأحكم، وذهاباً إلى أن الوقف في الآية: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. ومن ثم قيل: إن طريق السلف أسلم، وطريق الخلف أعلم) (٣).

ومثل هذا في كتب المتأخرين كثير. وسبب ذلك كما يبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة، التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى – وهي التي يسمونها طريقة السلف – وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف – وهي التي يسمونها طريقة الخلف – فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع .. الخ) (٤).

نقض شبهتهم:

بعد هذا العرض والاستذكار لدعوى المفوضة، والمسوغين للتفويض بأن التفويض أسلم، ننقض هذه الدعوى بما يلي:

أولاً: أن هذه (السلامة) المزعومة سلامة في مقابلة (العلم) و (الحكمة). فنصيب السلف: (السلامة) دون (العلم) و (الحكمة)، ونصيب الخلف (العلم) و (الحكمة) دون (السلامة)، وتلك قسمة ضيزى، وتحكم بلا دليل. فهذه الأمور الثلاثة متلازمة، لا يتصور انفكاكها. فإقرارهم بأن السلف لا يتميزون بالعلم والحكمة لعدم تعيينهم المراد من النصوص يتسلزم نفي السلامة عن طريقتهم. والأمر خلاف ذلك، بل على النقيض تماماً.


(١) ((إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل)) (ص: ٩٣).
(٢) ((شرح المقاصد)) (٤/ ٥٠).
(٣) ((شرح الخريدة البهية)) (ص: ٤٢ - ٤٣).
(٤) ((مجموع الفتاوى)) (٥/ ٩ - ١٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>