للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الرابع: الكمال البشري]

لا شكّ أن البشر يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً كبيراً في الخَلْق والخُلُق، والمواهب، فمن البشر القبيح والجميل وبين ذلك، ومنهم الأعمى والأعور والمبصر بعينه، والمبصرون يتفاوتون في جمال عيونهم وفي قوة أبصارهم، ومنهم الأصم والسميع وبين ذلك، ومنهم ساقط المروءة، ومنهم ذو المروءة والهمة العالية. ولا شكّ أن الأنبياء والرسل يمثلون الكمال الإنساني في أرقى صوره، ذلك أنّ الله اختارهم واصطفاهم لنفسه، فلا بدّ أن يختار أطهر البشر قلوباً، وأزكاهم أخلاقاً، وأجودهم قريحة، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤].

والكمال البشري يتحقق فيما يأتي:

- الكمال في الخلقة الظاهرة:

لقد حذرنا الله تعلى من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب: ٦٩].

وقد بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إيذاء بني إسرائيل لموسى كان باتهامهم إياه بعيب خلقي في جسده، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ موسى كان رجلاً حيياً ستَّيراً لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلاّ من عيب بجلده: إما برص، وإمّا أُدْرة، وإمّا آفة، وإنّ الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثمّ اغتسل، فلمّا فرغ، أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنّ الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل فرأوه عرياناً، أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ بثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إنّ بالحجر لندباً من أثر ضربه، ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فذلك قوله: يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً [الأحزاب: ٦٩])) (١).

قال ابن حجر العسقلاني معقباً على الحديث: (وفيه أن الأنبياء في خَلقهم وخُلُقهم، على غاية الكمال، وأن من نسب نبيّاً إلى نقص في خلقته فقد آذاه، ويخشى على فاعله الكفر) (٢).

- الصور الظاهرة مختلفة:

ليس معنى كون الرسل أكمل الناس أجساماً أنهم على صفة واحدة صورة واحدة، فالكمال الذي يدهش ويعجب متنوع وذلك من بديع صنع الواحد الأحد وكمال قدرته. وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأنبياء والرسل، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ليلة أسري بي رأيت موسى، وإذا هو رجل ضَرْبٌ من الرجال، كأنه من رجال شَنوءة)) (٣).

وقال في عيسى: ((ورأيت عيسى، فإذا هو رجل ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس)) (٤).

وقال فيه أيضاً: (ليس بيني وبينه نبيٌّ، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع، إلى الحمرة والبياض، ينزل بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل) (٥).


(١) رواه البخاري (٣٤٠٤)، ومسلم (٣٣٩).
(٢) ((فتح الباري)) (٦/ ٤٣٨).
(٣) رواه البخاري (٣٣٩٤)، ومسلم بنحوه (١٦٨). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) رواه البخاري (٣٣٩٤)، ومسلم (١٦٨). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥) رواه أبو داود (٤٣٢٤)، وأحمد (٢/ ٤٣٧) (٩٦٣٠)، وابن حبان (١٥/ ٢٣٣)، والحاكم (٢/ ٦٥١). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>