للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الأول: أهلية البشر لتحمّل الرسالة

الذين يستعظمون ويستبعدون اختيار الله بعض البشر لتحمّل الرسالة لا يقدرون الإنسان قدره، فالإنسان مؤهل لتحمّل الأمانة العظمى، أمانة الله التي أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها، إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب: ٧٢].

والذين استعظموا اختيار الله البشر رسلاً نظروا إلى المظهر الخارجي للإنسان، نظروا إليه على أنه جسد يأكل ويشرب وينام، ويمشي في الأرض لتلبية حاجاته وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: ٧]، ولم ينظروا إلى جوهر الإنسان، وهو تلك الروح التي هي نفخة من روح الله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: ٢٩]. وبهذه الروح تميز الإنسان، وصار إنساناً، واستخلف في الأرض، وقد أودعه الله الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته، فلا عجب أن يختار الله واحداً من هذا الجنس، صاحب استعداد للتلقي، فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلّما غام عليهم الطريق، وما يقدم به إليهم العون كلّما كانوا بحاجة إلى العون (١) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نّحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَكِنّ اللهَ يَمُنّ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم: ١١].

ثمَّ إنّ الرسل يُعدّون إعداداً خاصّاً لتحمُّل النبوة والرسالة، ويصنعون صنعاً فريداً وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: ٤١]، واعتبر هذا بحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كيف رعاه الله وحاطه بعنايته على الرغم من يتمه وفقره أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىَ وَوَجَدَكَ ضَآلًّا فَهَدَىَ وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىَ [الضحى: ٦ - ٨]، وقد زكّاه وطهّره، وأذهب عنه رجس الشيطان، وأخرج منه حظّ الشيطان منذ كان صغيراً، فعن أنس بن مالك ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشقّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثمّ غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه (٢)، يعني ظئره، فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللّون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره)) (٣).

وحدث قريب من هذا عندما جاءه جبريل يهيئه للرحلة الكبرى للعروج به إلى السماوات العلى، ففي حديث الإسراء: ((فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم، ففرج صدري، ثمّ غسله من ماء زمزم، ثمّ جاء بطست من مذهب ممتلئ حكمة وإيماناً، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه)) متفق عليه (٤). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص ٦٩


(١) انظر: ((في ظلال القرآن)) (١٩/ ٢٥٥٢).
(٢) المقصود: أمه من الرضاع، وهي حليمة السعدية.
(٣) رواه مسلم (٢٦١).
(٤) رواه البخاري (٣٤٩)، ومسلم (٢٦٣) واللفظ له.

<<  <  ج: ص:  >  >>