للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الخامس: حكم البدعة]

معلوم أن النهي عن البدع قد ورد على وجه واحد، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) (١). وهذا عام في كل بدعة.

وقد فصل الإمام الشاطبي رحمه الله القول في أحكام البدعة تفصيلاً لا يبقى بعده مجال للشك بأن كل بدعة محرمة. وإذا سلمنا أن منها ما هو مكروه فهو كراهة تحريم وليس كراهة تنزيه ...

قال الشاطبي: (ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة نخرج عنها الثلاثة، فيبقى حكم الكراهية, وحكم التحريم. فاقتضى النظر انقسام البدعة إلى قسمين: فمنها بدعة محرمة، ومنها بدعة مكروهة. وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات، لا تعدو الكراهة والتحريم، فالبدع كذلك هذا وجه.

ووجه ثان: أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبها متفاوتة، فمنها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن كقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا [الأنعام: ١٣٦].

وقال تعالى: مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ [المائدة: ١٠٣] (٢)).

قلت: ويلحق بالبحيرة والسائبة وما ذكر بعدهما ما يفعله المريدون في هذا الزمان من شيوخ الطرق الصوفية من النذور لمشايخهم, ووقف بعض أموالهم عليهم في الحياة وبعد الممات، حيث يعتنى بهذه الأموال كل العناية, فتترك بعض المواشي بحيث لا تحلب, ولا تركب, ولا تذبح، ولا يؤخذ صوفها ولا وبرها, ولا يتصرف فيها حتى تصل إلى مقام الشيخ أو تترك حتى تموت.

وقد حدثني بعض من هداهم الله إلى الحق بعد أن كان مغرقاً في التصوف أنه كان يخصص جل أمواله لشيخ الطريقة ويكتفي منها بما يسد رمقه ورمق عياله. وقال لي بعضهم - وكنت في زيارة لبعض البلاد الإسلامية -: إنه يخصص ثلث ماله لشيخ الطريقة، وذكر لي غير واحد ممن أثق به أن شيوخ الطرق يرهبونهم, ويهددونهم بالانتقام, وحدوث المصائب العظام، إذا لم يهبوا بعض أموالهم للشيخ، وقد يدعي زوراً وبهتاناً أنه من ذوي الشرف والسيادة - أي من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - بقصد ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل. والله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا [النساء: ٢٩ - ٣٠].


(١) رواه أبو داود (٤٦٠٧) وابن ماجه (٤٢) وأحمد (٤/ ١٢٦) (١٧١٨٤) وابن حبان (١/ ١٧٨) والطبراني (١٨/ ٢٤٥) والحاكم (١/ ١٧٦) من حديث العرباض بن سارية, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (١/ ١٨١) وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)): ثابت صحيح, (٢/ ١١٦٤) وصححه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (٢٠/ ٣٠٩) وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). وروى مسلم في ((الصحيح)) (٨٦٧) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (( ... وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ... )).
(٢) انظر: ((الاعتصام)) (٢/ ٣٦ - ٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>