وأما اتخاذ المناخل. فإن فرض كونه مباحاً كما قالوا فإنما إباحته بدليل شرعي فلا ابتداع، وإن فرض كونه مكروهاً كما أشار إليه محمد بن أسلم فوجه الكراهة عنده كونها عدت في الأثر الآتي من المحدثات. والظاهر أن الكراهة من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهته قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ... [الأحقاف: ٢٠]. لا من جهة أنه بدعة محدثة، وكذا يقال في باقي الأمثلة.
وجملة القول أن الابتداع إن دخل في الأمور العادية فهو لما فيها من معنى التعبد، فرجع الأمر إلى أن الابتداع المذموم لا يكون في العادي المحض، كالمخترعات في أمور الدنيا التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وترقى برقى الأمم والشعوب.
ولما كانت بذلك لا يمكن للناس حصر جزئياتها, ويعسر عليهم أن يتقيدوا بجزئيات مخصوصة منها ترك الشارع التصرف لكل أمة تدير شؤونها بما يوافق زمانها, وجاءهم بقواعد كلية تنطبق على كل أمة، وتصلح لكل زمان, فجعل العدل أساس الأعمال. واتقاء الشر مقدماً في أي حال من الأحوال، فمتى كان ذلك قصد الناس في أمورهم الدنيوية فليخترعوا ما شاءوا من الطرق النافعة، وليبتدعوا ما أرادوا من الحيل والأساليب الصحيحة، فإنه لا حجر في ذلك. أما إذا جاوز المخترعون العدل باختراعهم. وانصرفوا إلى الشر والإفساد في ابتداعهم، فتلك سنة سيئة ((ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها)) (١).
ومما تقدم من الكلام على حكم الابتداع في نحو لبس الثياب, والأكل, والشرب, والمشي, والنوم, يتضح أن هذه أمور عادية, وقد دخلها التعبد, وقيدها الشارع بأمور لا خيرة فيها كنهي اللابس عن إطالة الثوب، وطلب التسمية عند الأكل والشرب, والنهي عن الإسراف فيهما، والنهي عن النوم عارياً على سطح ليس ستر، إلى غير ذلك من القيود التي قيد بها الشارع, فالأمور المذكورة عادية, ومن هذه الجهة لا يدخلها الابتداع، وإنما من الجهة التي رسمها الشارع فيها. فإذا خولف بها الوجه المشروع, واعتبر ذلك ديناً يتقرب به إلى الله تعالى كانت بدعاً, بل هي معصية وابتداع باعتبارين كما سبق في وضع المكوس. فهي باعتبار مخالفتها الأمر والنهي عصيان, ومن حيث التقرب بها إلى الله تعالى من الجهة المضادة للطريق التي رسمها تكون مذمومة. تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي – ص ١٠٦
(١) رواه مسلم (١٠١٧) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.