للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه]

إن مجمل قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة هو أن الاستثناء في الإيمان جائز مشروع؛ لأن الإيمان عندهم شامل للاعتقادات والأقوال والأعمال، فإذا سئل أحدهم هذا السؤال استثنى في إيمانه مخافة عدم تكميل الأعمال التي بكمالها يكمل الإيمان؛ فيقول أحدهم إذا أجاب: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو نحو ذلك.

وليس هذا منهم شكاً في أصل الإيمان معاذ الله. فهم أعلى وأرفع من ذلك، وإنما هو ترك لتزكية النفس والشهادة لها بتكميل الأعمال، لهذا وقع منهم الاستثناء في الإيمان.

ولهم على ذلك دلائل وشواهد كثيرة من الكتاب والسنة ... وعلى هذا مضى مذهبهم واتفقت كلمتهم.

وقال الوليد بن مسلم: (سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبدالعزيز ينكرون أن يقول: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله) (١).

وقال البيهقي: (وقد روينا هذا - يعني الاستثناء في الإيمان - عن جماعة من الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين) (٢).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما مذهب سلف أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه، والثوري، وابن عيينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة؛ فكانوا يستثنون في الإيمان، وهذا متواتر عنهم ... ) (٣).

وقال: (والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة؛ أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه) (٤).

وقال: (الاستثناء في الإيمان سنة عند أصحابنا وأكثر أهل السنة) (٥)، ومعنى قوله الاستثناء سنة أي: جائز، رداً على من نهى عنه وحرمه ...

وأما مأخذ السلف في الاستثناء، ووجه استثنائهم في الإيمان، فالمتأمل لأقوالهم الواردة في ذلك يجد أنهم عندما كانوا يستثنون يلحظون أموراً أربعة - وإن كان في بعضها نوع تداخل ... وهي:

١ - أن الإيمان المطلق الشامل لكل ما أمر الله به والبعد عن كل ما ينهى عنه، ولا يدعي أحد إنه جاء بذلك كله على التمام والكمال.

٢ - أن الإيمان النافع هو المتقبل عند الله.

٣ - البعد عن تزكية النفس، وليس هناك تزكية لها أعظم من التزكية بالإيمان.

٤ - أن الاستثناء يكون في الأمور المتيقنة غير المشكوك فيها كما جاءت بذلك السنة.

فهذا مجمل الأمور التي كان يستثني من أجلها السلف في إيمانهم، وتفصيل هذه الأمور كما يلي:

١ - فالمأخذ الأول:

للسلف في استثنائهم في الإيمان هو اعتبارهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله (٦). ولا يدعي مسلم عاقل هذا لنفسه.

لهذا كان السلف يستثنون مخافة واحتياطاً أن لا يكونوا كملوا الأعمال وأتوا بها على وجهها المطلوب، فقول أنا مؤمن عندهم كقول أنا وليّ أو أنا تقيّ، ولا يجزم أحد أنه كمل مراتب التقوى، وأتم مراتب الولاية إلا من خسف عقله وقلّ خوفه، فكذلك لا يجزم أنه كمل مراتب الإيمان وأتم درجاته، فعندئذ لزمه الاستثناء في إيمانه مخافة واحتياطاً.


(١) رواه عبدالله في ((السنة)) (١/ ٣٤٧)، وابن بطة في ((الإبانة)) (٢/ ٨٧٣).
(٢) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (١/ ٢١٢).
(٣) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٣٨، ٤٣٩).
(٤) ((الفتاوى)) (٧/ ٥٠٥).
(٥) ((الفتاوى)) (٧/ ٦٦٦).
(٦) انظر: ((الفتاوى)) لابن تيمية (٧/ ٤٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>