للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون في الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم قول وعمل، والقول كل يجزم أنه أتى به، وأما العمل فلا، إذ الناس متفاوتون في القيام به تفاوتاً عظيماً، وأقوال السلف في هذا كثيرة.

قال الإمام أحمد: (أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان، لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل، فيعجبني أن نستثني في الإيمان بقول: أنا مؤمن إن شاء الله) (١).

وقال: (لو كان القول كما تقول المرجئة أن الإيمان قول ثم استثنى بعد على القول لكان هذا قبيحاً أن تقول لا إله إلا الله إن شاء الله ولكن الاستثناء على العمل) (٢).

وقال: (لا نجد بداً من الاستثناء؛ لأنه إذا قال: أنا مؤمن، فقد جاء بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول) (٣).

وقال له رجل: قيل لي أمؤمن أنت؟ قلت: نعم. هل علي في ذلك شيء هل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد وقال: هذا كلام الإرجاء، قال الله عز وجل: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ [التوبة: ١٠٦] من هؤلاء؟ ثم قال أحمد: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ فقال الرجل: بلى، قال فجئنا بالعمل؟ قال: لا. قال: كيف تعيب أن تقول إن شاء الله وتستثني (٤)؟

وعن الميموني أنه سأل أبا عبدالله عن قوله ورأيه في مؤمن إن شاء الله. قال: (أقول مؤمن إن شاء الله ومؤمن أرجو؛ لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال على ما افترضت عليه أم لا) (٥).

وقال الإمام أحمد: (إنما نصير الاستثناء على العمل؛ لأن القول قد جئنا به) (٦).

قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر طائفة من هذه النقول: (ومثل هذا كثير في كلام أحمد وأمثاله) (٧).

وقال محمد بن حسين الآجري: ( .. هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال، لا يكون في القول، والتصديق بالقلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك، وبينه العلماء من قبلنا. روي في هذا سنن كثيرة) (٨).

٢ - وأما المأخذ الثاني:

فهو الاستثناء بالنظر إلى تقبل الأعمال من الله تعالى، إذ إن من قام بالعمل وأتى به لا يدري هل تقبل منه عمله أو لا؟

قال تعالى في وصف المؤمنين: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: ٦٠].

وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء فقالت: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر، ويخاف أن يعذب؟ قال: ((لا، يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه)) (٩).


(١) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٦٠٠)، و ((ابن هانئ في مسائله)) (٢/ ١٦٢)، وذكره شيخ الإسلام، وانظر: ((الفتاوى)) (٧/ ٤٤٧).
(٢) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٦٠١).
(٣) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٩٧).
(٤) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٩٧)، و ((أبو داود في مسائله)) (ص: ٢٧٣)، وبنحوه الآجري في ((الشريعة)) (ص: ١٣٧).
(٥) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٦٠١) وذكره شيخ الإسلام ((الفتاوى)) (٧/ ٤٤٨)، وانظر تعليق شيخ الإسلام عليه.
(٦) رواه عبدالله في ((السنة)) (١/ ٣٠٨).
(٧) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٤٨).
(٨) ((الشريعة)) للآجري (ص: ١٣٦).
(٩) رواه الترمذي (٣١٧٥)، وابن ماجه (٣٤٠٣)، وأحمد (٦/ ٢٠٥) (٢٥٧٤٦)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (١/ ٤٧٧). قال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (٦/ ٢٥٨)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>