للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا كان دأب السلف الصالح من صحابة وتابعين، يقومون بالأعمال الكثيرة الجليلة، ثم يخافون أن لا تكون قد تقبلت منهم.

قال ابن بطة العكبري: (فهذه سبيل المؤمنين وطريق العقلاء من العلماء لزوم الاستثناء والخوف والرجاء لا يدرون كيف أحوالهم عند الله ولا كيف أعمالهم أمقبولة هي أم مردودة؟ قال الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: ٢٧] وأخبر عن عبده الصالح سليمان عليه السلام في مسألته إياه وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل: ١٩].

أفلا تراه كيف يسأل الله الرضا منه بالعمل الصالح لأنه قد علم أن الأعمال ليست بنافعة وإن كانت في منظر العين صالحة إلا أن يكون الله عز وجل قد رضيها وقبلها، فهل يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجزم أن أعماله الصالحة من أفعال الخير وأعمال البر كلها مرضية وعنده زكية ولديه مقبولة، هذا لا يقدر على حتمه وجزمه إلا جاهل مغتر بالله، نعوذ بالله من الغرة بالله والإصرار على معصية الله.

أما ترون رحمكم الله إلى الرجل من المسلمين قد صلى الصلاة فأتمها وأكملها وربما كانت في جماعة وفي وقتها وعلى تمام طهارتها فيقال له: صليت؟ فيقول: قد صليت إن قبلها الله، وكذلك القوم يصومون شهر رمضان؛ فيقولون في آخره: صمنا إن كان الله قد تقبله منا، وكذلك يقول من قدم من حجه بعد فراغه من حجه وعمرته، وقضاء جميع مناسكه إذا سئل عن حجه إنما يقول: قد حججنا ما بقي غير القبول، وكذلك دعاء الناس لأنفسهم ودعاء بعضهم لبعض: اللهم تقبل صومنا وصلاتنا وزكاتنا، وبذلك يلقى الحاج فيقال له: قبل الله حجك وزكى عملك، وكذا يتلاقى الناس عند انقضاء شهر رمضان فيقول بعضهم لبعض: قبل الله منا ومنك.

بهذا مضت سنة المسلمين وعليه جرت عادتهم وأخذه خلفهم عن سلفهم، فليس يخالف الاستثناء في الإيمان ويأبى قبوله إلا رجل خبيث مرجئ ضال قد استحوذ الشيطان على قلبه نعوذ بالله منه) (١).

وقال شيخ الإسلام: (وخوف من خاف من السلف أن لا يتقبل منه، لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور، وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال الإيمان كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله، لخوف أن لا يكون أتى بالواجب على الوجه المأمور به، لا على جهة الشك فيما بقلبه من التصديق) (٢).

(وسُئل ابن المبارك فقيل له: إن قوماً يقولون: إن سفيان الثوري حين كان يقول إن شاء الله كان ذاك منه شك، فقال ابن المبارك: أترى سفيان كان يستثني في وحدانية الرب أو في محمد صلى الله عليه وسلم، إنما كان استثناؤه في قبول إيمانه وما هو عند الله) (٣).

وقد نقل الإمام أحمد عن سليمان بن حرب أنه كان يستثني ويحمل هذا على التقبل يقول: (نحن نعمل، ولا ندري يتقبل منا أو لا؟) (٤)

فهذا وجه من أوجه الاستثناء عند السلف الصالح وهو النظر إلى التقبل، وهو في الحقيقة عند التأمل يعود إلى الوجه الأول، وهو النظر إلى الأعمال وتكميلها؛ لأن القبول متعلق بالإتيان بالأعمال على الوجه المطلوب، فمن كان عمله كذلك قبل منه.


(١) ((الإبانة)) لابن بطة (٢/ ٨٧٢، ٨٧٣).
(٢) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٩٦)، وانظر ((السلسلة الصحيحة)) للألباني (١/ ٢٥٧).
(٣) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (٣/ ٦٧٠).
(٤) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٩٧)، وابن بطة في ((الإبانة)) (٢/ ٨٧٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>