للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة الأولى: المعنى الصحيح لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وانقسام الناس فيها]

اعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقاً زائدة على مجرد التصديق بنبوته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب, واللسان, والجوارح أموراً زائدة على مجرد التصديق به سبحانه. وحرم سبحانه لحرمة رسوله - مما يباح أن يفعل مع غيره - أموراً زائدة على مجرد التكذيب بنبوته.

فمن تلك الحقوق حقه صلى الله عليه وسلم بأن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دلت على ذلك الأدلة من القرآن والسنة (١) والتي سيأتي ذكرها.

(فحب النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم واجبات الدين) (٢).

فهذه المحبة الواجبة له صلى الله عليه وسلم هي من محبة الله، فهي حب لله وفي الله، ذلك لأن محبة الله توجب محبة ما يحبه الله، والله يحب نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم، فوجب بذلك محبته حقاً، فهي متفرعة عن محبة الله وتابعة لها, واقتران ذكرها مع محبة الله في القرآن والسنة إنما هو للتنبيه على أهميتها وعظم منزلتها.

وبمقتضى هذه المحبة يجب موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في حب ما يحبه, وكره ما يكرهه، أي بتحقيق المتابعة له فيحب بقلبه ما أحب الرسول، ويكره ما كرهه الرسول، ويرضى بما يرضى الرسول، ويسخط ما يسخط الرسول، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض.

وقد انقسم الناس في فهمهم لهذه المحبة إلى ثلاثة أقسام هي:

القسم الأول: أهل الإفراط.

القسم الثاني: أهل التفريط.

القسم الثالث: الذين توسطوا بين الإفراط والتفريط.

أما أصحاب القسم الأول: فهم الذين بالغوا في محبته بابتداعهم أموراً لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ظناً منهم أن فعل هذه الأمور هو علامة المحبة وبرهانها.

ومن تلك الأمور احتفالهم بمولده، ومبالغتهم في مدحه, وإيصاله إلى أمور لا تنبغي إلا لله تعالى ومن ذلك قول قائلهم:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم (٣)

وقوله:

فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم

فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعض علومه علم اللوح والقلم لأن (من) للتبعيض، فماذا للخالق جل وعلا؟

إضافة إلى صرف بعض أنواع العبادة له كالدعاء, والتوسل, والاستشفاع, والحلف به, والطواف, والتمسح بالحجرة التي فيها قبره صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من البدعيَّات والشركيَّات التي تفعل بدعوى المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أمور لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة رضوان الله عليهم الذين عرفوا بإجلالهم وتقديرهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإضافة إلى ذلك فإن ما يقوم به هؤلاء هي أمور مخالفة لما جاء به الشارع، بل هي أمور قد حذر الشارع من فعلها، ولقد صار حظ أكثر أصحاب هذا القسم منه صلى الله عليه وسلم مدحه بالأشعار والقصائد المقترنة بالغلو والإطراء الزائد الذي حذر منه الشارع الكريم، مع عصيانهم له في كثير من أمره ونهيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات الله عليه وسلامه (٤).


(١) ((الصارم المسلول)) (ص ٤٢٠، ٤٢١) بتصرف يسير.
(٢) ((الرد على الأخنائي)) (ص: ٢٣١).
(٣) ((ديوان البوصيري)) (ص: ٢٣٨).
(٤) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: ١٨٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>