للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثاني: ضوابط التمييز بين الأصول والفروع]

جرت عادة كثير من العلماء في التفريق بين مسائل في الدين يعتبرونها أصولاً، وبين أخرى يعتبرونها فروعاً، وبنوا على ذلك العذر بالخطأ وغيره من العوارض في الفروع، وعدم العذر بها في الأصول.

كما طبق هذا التقسيم على العلوم الشرعية، حيث جعلت مسائل علم العقيدة وعلم الأصول أصولاً، وجعلت مسائل علم الفقه فروعاً، مما حدا ببعض العلماء إلى إنكار تقسيم الشريعة إلى أصول وفروع.

والملاحظ على هذا التقسيم بين مسائل الدين أو بين علوم الشرعية، يلاحظ عليه عدم انضباطه متفق عليه بين من رأى هذا التقسيم، ولهذا رد بعض العلماء هذا التقسيم، وانتقدوا من قال به ردوا عليهم.

ومن أبرز العلماء الذين ردوا هذا التقسيم ورفضوه خاصة لما بني عليه من التطبيقات من حيث التكفير بالخطأ في الأصول، والعذر في الفروع، ومن حيث التهوين من شأن مسائل مهمات في الدين تعد من أركانه، إذ جعلت من فروع الدين؛ لأنها ليست من مسائل العقيدة – بزعمهم – كالصلاة والزكاة وما إليها من مسائل اختص بها علم الفقه في أغلب الأحيان. فكان من أبرز من رد هذا التقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتابعه على ذلك تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول، وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض. فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟، وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟. فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟، وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟، وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث، هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والصيام وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق.

وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية. وكون المسائل قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية؛ لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مراده منه. وعند رجل لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية؛ لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته) (١).

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: (إنهم قسموا الدين إلى مسائل علمية وعملية وسموها أصولا وفروعاً، وقالوا: الحق في مسائل الأصول واحد، ومن خالفه، فهو كافر أو فاسق. وأما مسائل الفروع، فليس لله تعالى فيها حكم معين ولا يتصور فيها الخطأ، وكل مجتهد مصيب لحكم الله تعالى الذي هو حكمه. وهذا التقسيم لو رجع إلى مجرد الاصطلاح لا يتميز به ما سموه أصولاً مما سموه فروعا، فكيف وقد وضعوا عليه أحكاماً وضعوها بعقولهم وآرائهم ... ومنها: إثبات الفروع بأخبار الآحاد دون الأصول، وغير ذلك. وكل تقسيم لا يشهد له الكتاب والسنة وأصول الشرع بالاعتبار، فهو تقسيم باطل يجب إلغاؤه) (٢).


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٢٣/ ٣٤٦ - ٣٤٧). وانظر: (١٣/ ١٢٦، ١٩/ ٢٠٧ - ٢١٢)، و ((منهاج السنة)) (٥/ ٤٨ - ٩٥).
(٢) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص: ٦١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>