للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: من وظائف العقل في باب الصفات فهم معانيها]

فإن الله سبحانه وتعالى خاطب عباده بلسان عربي مبين، وجعل كتابه تبياناً لكل شيء وشفاء لما في الصدور. ولم يستثن نوعاً من الآيات يمتنع فهمها ومعرفة معناها. قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٥]. وقال أيضاً: وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف: ١٢]. وقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: ٧]. ولا يمكن أن تتحقق النذارة المذكورة إلا بفهم معناه وتعقله. ولهذا قال: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: ٣]. فالتلازم بين كونه عربياً وتعقله واضح. فالألفاظ إنما هي أوعية للمعاني. كما أن عربية القرآن سبب لحصول التقوى الناشئة من الفهم. قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: ١١٣]. وعربية القرآن سبب لحصول العلم الذي هو ثمرة الفهم للمعنى. قال تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: ٣]. وقد قطع الله حجة الذين قد يتعللون بعدم فهمه بجعله عربياً مفهوم المعنى لدى المخاطبين فقال: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء [فصلت: ٤٤].

فالعقل مدعو لفهم خطاب الشارع دون استثناء، ومن ادعى استثناء نص معين, أو نوع معين من النصوص طولب بالدليل، ولا دليل.

ومن أمثلة فهم معاني ما أخبر الله عن نفسه من الأسماء والصفات، قول الإمام الأصبهاني أبي القاسم إسماعيل بن محمد في شرح أسماء الله الحسنى: (ومن أسماء الله تعالى: الحليم: حليم عمن عصاه لأنه لو أراد أخذه في وقته أخذه، فهو يحلم عنه ويؤخره إلى أجله، وهذا الاسم وإن كان مشتركاً يوصف به المخلوق، فحلم المخلوقين حلم لم يكن في الصغر ثم كان في الكبر، وقد يتغير بالمرض, والغضب, والأسباب الحادثة، ويفنى حلمه بفنائه، وحلم الله عز وجل لم يزل ولم يزول. والمخلوق يحلم عن شيء ولا يحلم عن غيره، ويحلم عمن لا يقدر عليه، والله تعالى حليم مع القدرة) (١).

فهذا مثال للمنهج الشرعي في فهم نصوص الصفات تضمن إثبات المعنى المشترك للفظ الصفة المعهود بالأذهان، ثم فرق بين ما ينبغي للخالق وما ينبغي للمخلوق، وأن لله تعالى المثل الأعلى. وهكذا صنع في بقية الأسماء والصفات.

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحدة، إنه وتر يحب الوتر، من أحصاها دخل الجنة)) (٢). قال أبو إسحاق الزجاج رحمه الله في ذكر معنى الإحصاء: (ويجوز أن يكون معناه: من عقلها، وتدبر معانيها، من الحصاة التي هي العقل) (٣). وأنشد في هذا المعنى قول الشاعر:

وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل

@ مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص ٤٧٦


(١) ((الحجة في بيان المحجة)) (١/ ١٣٠).
(٢) رواه البخاري (٢٧٣٦)، ومسلم (٢٦٧٧).
(٣) ((تفسير أسماء الله الحسنى)) (ص: ٢٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>