منها قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبيَّ ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ إلى قوله: والذينَ يُؤْذونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ إلى قوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنْهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:٦١ - ٦٣]، فعُلم أن إيذاء رسول الله محادَّة لله ولرسوله؛ لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادّة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً إذا أمكن أن يقال: إنه ليس بمحاد، ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادّ َة كفر؛ لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها، ولم يقل:(هي جزاؤه)، وبين الكلامين فَرْق، بل المحادَّة هي المعاداة والمشاقَّة، وذلك كفر ومحاربة؛ فهو أغْلَظُ من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً، عدوّاً للهِ ورسوله، محارباً لله ورسوله، لأن المحادَّة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كلُّ واحد منهما في حد كما قيل: المشاقَّة: أن يصير كل منهما في شق، والمعاداة: أن يصير كل منهما في عِدْوةٍ.
وفي الحديث أنَّ رجلاً كان يسبُّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:((مَنْ يَكْفِيني عَدُوِّي؟)) (١)، وهذا ظاهر قد تقدم تقريره، وحينئذٍ فيكون كافراً حَلال الدم؛ لقوله تعالى: إنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين [المجادلة:٢٠]، ولو كان مؤمناً معصوماً لم يكن أذلّ؛ لقوله تعالى: وَللهِ العزةُ ولرسُولهِ وللمؤمِنيْنَ [المنافقون:٨] وقوله: كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة:٥]، والمؤمن لا يُكبت كما كُبت مكذبو الرسل قط، ولأنه قد قال تعالى: لاَ تجدُ قوماً يُؤمنونَ بِاللهِ واليوْمِ الآخرِ يُوآدُّونَ منَ حآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:٢٢]، فإذا كان من يُوَادّ المحادَّ ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه؟ وقد قيل: إن من سبب نزولها أن أبا قُحَافَةَ شتم النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الصديق قتله، وأن ابن أُبَيّ تنقَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن ابنُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قتله لذلك، فثبت أن المحادَّ كافرٌ حلالُ الدم. وأيضاً فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادِّين لله ورسوله والمعادين لله ورسوله، فقال تعالى: لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ منَ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَه ولوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ [المجادلة:٢٢]، وقال: يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوّي وَعَدوَّكُمْ أَوْلَيَاءَ تُلْقُونَ إليهِمْ بالْموَدَّةِ [الممتحنة:١]، فعُلم أنهم ليسوا من المؤمنين.
وأيضاً، فإنه قال سبحانه: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابُ النَّار ذَلِكَ بأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَآقِّ اللهَ فإنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ [الحشر:٣ - ٤].
فجعل (سبب) استحقاقهم العذابَ في الدنيا ولعذاب النار في الآخرة هو مُشَاقَّةَ الله ورسوله، والمؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مُشَاقٌ للهِ ورسوله ... والعذاب هنا هو الإهلاك بعذابٍ من عنده، أو بأيدينا، وإلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذَهَاب الأموال وفراق الأوطان.
(١) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (٥/ ٢٣٧) عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما مرسلاً.