[الفرع الثاني: أدلة مرتبة المشيئة]
أي: أن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله سبحانه وتعالى فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يخرج عن إرادته شيء، وقد وردت أدلة كثيرة جداً لهذه المرتبة من الكتاب والسنة:
فمن أدلتها من الكتاب:
١ - قوله تعالى في معرض الحديث عن أهل الكتاب ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتبع أهواءهم وأمره أن يلتزم الحكم بما أنزل الله مبيناً أن لكل من الأمم الثلاث: اليهود والنصارى وأمة محمد، شريعة ومنهاجاً في كل من التوراة والإنجيل والقرآن (وقد نسخ القرآن ما قبله) وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [المائدة:٤٨] أي: لجعلكم على شريعة واحدة، وكتاب واحد، ورسول واحد، لكن لما لم يشأ الله ذلك بل شاء الابتلاء والاختبار فكنتم على الحالة التي أنتم عليها (١) فمشيئة الله مطلقة والنافذ هو ما يشاؤه سبحانه وتعالى فهذا دليل على مرتبة المشيئة.
٢ - وقد ورد في القرآن الكريم - في الحديث عن بعض الأنبياء وغيرهم - تعليقهم كل أمر بمشيئة الله سبحانه وتعالى, فنوح عليه الصلاة والسلام لما قال له قومه: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف:٧٠] , قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [هود: ٣٣]. وشعيب عليه السلام بعد ما طلب منه قومه أن يعود إلى ملتهم بيَّن أنه لا يمكن له أن يعود إلى ملتهم بعد أن نجاه الله منها هو والمؤمنون معه, ولا ينبغي لهم ذلك إلا إذا شاء الله ذلك فقال: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [الأعراف: ٨٩] , فعلق أعظم شيء وهو الإيمان والكفر على مشيئة الله. ويوسف عليه السلام قال لأهله بعد أن التقى بهم: ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ [يوسف:٩٩]. وقال موسى عليه السلام للخضر: قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:٦٩] , والله سبحانه وتعالى وجه نبيه قائلاً: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:٢٣ - ٢٤] , فهذه الآيات تدل على استقرار عقيدة المسلمين ويقينهم بهذه المرتبة من مراتب القدر.
٣ - وفي القرآن آيات كثيرة تدل على أن حوادث الدنيا إنما تجري وفق مشيئته سبحانه وتعالى, فهو الذي يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, وهو الذي يعز من يشاء, ويذل من يشاء, فتدول الدول, ويعز الذليل, ويذل العزيز كل ذلك بمشيئة الله قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:٢٦] , وهو الذي يصور الخلق في الأرحام كيف يشاء ذكوراً, وإناثاً, أشقياء, وسعداء, مختلفين في صفاتهم وأشكالهم حسناً وقبحاً, قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:٦]
(١) انظر: ((روح البيان في مقاصد القرآن)) لصديق حسن خان (٣/ ٤٤).