للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٤ - وفي إثبات أن الله مريد لكل ما يخلقه جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم، فحين يبين سبحانه أن الذين شقوا في النار, وأنهم خالدون في النار مادامت السموات والأرض, يعقب على ذلك بقوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [هود:١٠٧] فلا يرده أحد عن مراده سبحانه, وبعد أن بين - تعالى - أنه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار, عقب على ذلك بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ , وفي آية أخرى يبين الله تعالى أنه هو الذي يريد الهداية والإضلال قال تعالى: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [الأنعام:١٢٥].

أدلة هذه المرتبة من السنة:

عقد البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب التوحيد باباً عرض فيه لبعض النصوص الواردة في أثبات المشيئة والإرادة، فقال: (باب في المشيئة والإرادة) , ثم أورد بعض الآيات والأحاديث الواردة, ونحن نذكر شيئاً منها مما أورده البخاري وغيره:

١ - فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: ((اشفعوا تؤجروا, ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء)) (١) , فأوصى بالشفاعة وذلك فيما ليس بمحرم, وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه، ثم بين أن الله يقضي على لسان رسوله ما شاء أي: يظهر على لسان رسوله بالوحي أو الإلهام ما قدره في علمه بأنه سيقع, فهذا يدل على مرتبة المشيئة.

٢ - وقد ((أقر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أجابه بعد سؤاله له هو وفاطمة بقوله: ألا تصليان؟ فأجابه بقوله: أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. قال علي: فانصرف حيث قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً, ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه وهو يقول: وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:٥٤])) (٢)؛ ففي هذا الحديث إثبات المشيئة لله تعالى وأن العبد لا يفعل شيئاً إلا بإرادة الله, أما انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وضربه فخذه واستشهاده بالآية، فمعناه: أنه تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا، ولهذا ضرب فخذه وقيل: قال تسليماً لعذرهما, وأنه لا عتب عليهما, وقيل غير ذلك (٣).

٣ - وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) (٤) والشاهد قوله: ((كقلب واحد يصرفه حيث يشاء))؛ فمعناه أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده كلهم, فيهدي ويضل كما يشاء, ففيه دلالة على مرتبة المشيئة, والحديث من أحاديث الصفات الثابتة والتي يجب الإيمان بها وبما دلت عليه من الصفات من غير تأويل أو تعطيل, وقد أخطأ النووي رحمه الله حيث ذكر في معنى الحديث قولين باطلين: أحدهما: أنه من أحاديث الصفات وينبغي الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة, بل يؤمن بأنها حق, وأن ظاهرها غير مراد, والثاني: أن يتأول بحسب ما يليق بها, فعلى هذا المراد المجاز, وكلا القولين خطأ, إذ ذهب أهل السنة إلى إثباتها كما جاءت, والإيمان بها وبما دلت عليه على ما يليق بجلال الله وعظمته.


(١) رواه البخاري (١٤٣٢).
(٢) رواه البخاري (١١٢٧). من حديث علي رضي الله عنه.
(٣) انظر: ((فتح الباري)) (٣/ ١١).
(٤) رواه مسلم (٢٦٥٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>