للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: حفظ القرآن في عهد النبوة]

أنزل الله تعالى كتابه ليكون الكتاب المهيمن، والرسالة الخاتمة، والشرعة الباقية، مما يتطلب رعايته عن عبث العابثين؛ وتحريف الغالين؛ وانتحال المبطلين؛ وقد اتفق له ذلك منذ اللحظة الأولى لنزوله، وحتى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تحقيقاً لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: ٩].

وللحفظ في عهد النبوة وجوه عدة، منها:

١ - الطريقة التي كان ينزل بها الوحي:

وهي أن ينزل على هيئة تكون أدعى إلى حفظه، وضبطه: أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي, فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول)) (١).

٢ - مدارسة الملك النبي صلى الله عليه وسلم القرآن:

وكان ذلك في رمضان من كل عام: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة) (٢). وفي رواية لأبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه ... ) (٣).

٣ - كتابة الوحي، ومقابلته:

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقاً شديداً ... فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف، أو كسرة، فأكتب وهو يملي علي ... فإذا فرغت، قال: اقرأ، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس)) (٤).

٤ - قصر الكتابة على القرآن:

وذلك في بادئ الأمر، لئلا يختلط القرآن بغيره، لحديث ((لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج ... )) (٥). ثم كان الإذن بالكتابة، بعد أن زال سبب المنع.

٥ - الحض على تعلم القرآن وتعليمه:

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على تعلم القرآن وتعليمه، وحفظه، وتحفيظه, وكان يقدم أكثرهم أخذاً للقرآن في إمامة الصلوات، وقيادة السرايا: أخرج البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) (٦). وأخرج الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن؛ فأتى على رجل منهم من أحدثهم سناً، فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: فاذهب أنت أميرهم ... )) (٧).

٦ - قوة الحافظة عند العرب:

فالعرب كانوا أهل حافظة لا تكاد تخطئ، وذاكرة لا يكاد يعزب عنها شيء، وخاصة أن القرآن جاء في براعة من الأسلوب، ورفعة من البيان، ما يجعله أحرى لحفظه، والاهتمام به، حتى كثر آخذوه: صدراً وسطراً، قال الباقلاني رحمه الله: ( ... وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال, وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير؛ إذ كان عمدة دينهم، وعلماً عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم) (٨). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن– ١/ ٦١


(١) رواه البخاري (٢)، ومسلم (٢٣٣٣).
(٢) رواه البخاري (٤٩٩٧)، ومسلم (٢٣٠٨).
(٣) رواه البخاري (٤٩٩٨).
(٤) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (٤٨٨٩). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (١/ ١٥٧): [روي] بإسنادين ورجال أحدهما ثقات. وقال السيوطي في ((تدريب الراوي)) (٢/ ٢٤): رجاله موثقون.
(٥) رواه مسلم (٣٠٠٤).
(٦) رواه البخاري (٥٠٢٧).
(٧) ((سنن الترمذي)) (٢٨٧٦)، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأشار المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (٢/ ٣٠٠): إلى أن [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]. وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) [أشار في المقدمة إلى صحته].
(٨) ((إعجاز القرآن)) (ص: ١٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>