المطلب الأول: الأدلة من النظر على ذمِّ البدع
أمَّا النظر فمن وجوه:
(أحدها) أنَّه قد عُلِمَ بالتجارب والخبرة، أنَّ العقول غير مستقلة بمصالحها، استجلاباً لها، أو مفاسدها، استدفاعاً لها. لأنَّها إما دنيوية أو أُخروية.
فأمَّا الدنيوية فلا يستقل باستدراكها على التفصيل البتَّة لا في ابتداء وضعها أوَّلاً، ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها، إما في السوابق، وإما في اللواحق، لأنَّ وضعها أوَّلاً لم يكن إلا بتعليم الله تعالى.
فلولا أنْ منَّ الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأوَّلين والآخرين.
وأمَّا المصالح الأُخرويَّة، فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها، وهي العبادات مثلاً. فإنَّ العقل لا يشعر بها على الجملة، فضلاً عن العلم بها على التفصيل.
فعلى الجملة، العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي. فالابتداع مضادٌ لهذا الأصل، لأنَّه ليس (له) مستندٌ شرعيٌ بالفرض، فلا يبقى إلا ما ادَّعوه من العقل.
فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها، ما رام تحصيله من جهتها، فصارت كالعبث.
(الثاني) أنَّ الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، لأن الله تعالى قال فيها: الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكَمُ الإسلامَ دِيناً [المائدة: ٣]. وفي حديث العِرباض بن سارية: ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إنَّ هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) الحديث (١).
فالمبتدع إنَّما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله:
إنَّ الشريعة لم تتم، وأنَّه بقي منها أشياءُ يجب أو يستحب استدراكها، لأنَّه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كلِّ وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأنَّ الله يقول: اليوم أكملتُ لكم دينكم فما لم يكن يومئذٍ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً.
(الثالث) أنَّ المبتدع معاندٌ للشرع ومشاقٌّ له، لأنَّ الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقَصَرَ الخَلْقَ عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أنَّ الخير فيها، وأنَّ الشر في تعدِّيها ـ إلى غير ذلك، لأنَّ الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنَّه إنَّما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. فالمبتدع رادٌ لهذا كله، فإنَّه يزعم أنَّ ثمَّ طُرُقاً أُخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عيَّنَه بمتعيّن، كأنَّ الشارع يعلم، ونحن أيضاً نعلم. بل ربما يُفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنَّه علم ما لم يعلمه الشارع.
وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفرٌ بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال مبين.
(١) رواه ابن ماجه (٤٣) واللفظ له، وأحمد (٤/ ١٢٦) (١٧١٨٢). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، والحديث حسنه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (١/ ٦٨). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (٩٣٧): إسناده صحيح.