للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله القاهر – القهار]

١) إن القهار على الحقيقة هو الله وحده سبحانه، هو قهر وغلب عباده أجمعين، حتى إن أعتى الخلق يتضاءل ويتلاشى أمام قهر الله وجبروته، فها هو الموت الذي كتبه الله على عباده لا يستطيع الخلق رده أو دفعه عن أنفسهم، ولو أوتوا من القوة والجبروت ما أوتوا، وقد ذكر الله الموت قريباً من وصفه نفسه بـ (القاهر) لذكرهم بشيء قد قهرهم به أجمعين وذلك في قوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: ٦١ - ٦٢].

ومما قهرهم به أيضاً: الأمراض والمصائب والنكبات التي لا يملكون ردها عن أنفسهم.

وما أحسن قول من قال: القهار الذي طاحت عند صولته صولة المخلوقين، وبادت عند سطوته قوى الخلائق أجمعين، قال تعالى لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ فأين الجبابرة والأكاسرة! عند ظهور هذا الخطاب وأين الأنبياء والمرسلون، والملائكة المقربون في هذا العتاب، وأين أهل الضلال والإلحاد، والتوحيد والإرشاد، وأين آدم وذريته، وأين إبليس وشيعته، وكأنهم بادوا أو انقضوا زهقت النفوس، وتبددت الأرواح وتلفت الأجسام والأشباح، وتفرقت الأوصال، وبقي الموجود الذي لم يزل ولا يزال (١).

٢) وأما صفة القهر في الخلق، فغالباً ما تكون مذمومة لقيامها على الظلم والطغيان، والتسلط على الضعفاء والفقراء كما قال فرعون لعنه الله قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف: ١٢٧].

وقال تعالى فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [الضُّحى: ٩] أي لا تسلط عليه بالظلم وادفع إليه حقه، وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه، وقوله وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ أي لا تزجره ولا تغلظ له القول.

وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قال القرطبي: وهذه هي النعمة العظمى، وهي ما من الله عليه من الرسالة والنبوة والخلة والمحبة والعلم والحكمة، فأوجب عليه أن يظهر ذلك ويشيعه ويحدث به، ويعلم الجاهل غير ممتن عليه ولا متطاول ولا قاهر له.

وكذلك قال معاوية بن الحكم السلمي: (فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني) الحديث خرجه مسلم (٢).

وقرئ فلا تكهر بالكاف وهي قراءة عبد الله بن مسعود، قال الكسائي: كهره وقهره بمعنى (٣).

٣) قوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: ٦١] يستفاد منه صفة العلو لله سبحانه على عباده، سواء علو (المكانة والرتبة) أو علو (المكان والجهة) وقد تظافرت أدلة الكتاب والسنة عليه (أي الثاني) كقوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى وقوله أَأَمِنتُم مَّنْ فِي السَّمَاء.

٤) أنه سبحانه هو الذي قهر الخلق جميعاً على ما أراد.

٥) أن الله هو القهار المستحق للعبادة والألوهية وما سواه من الآلهة فإنما هي مخلوقات عاجزة مقهورة، لا تملك أن ترد الضر عن نفسها فكيف تقهر غيرها، وبهذا جادل نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم صاحباه في السجن فقال يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ [يوسف: ٣٩] فبين لهم أن آلهتهم متعددة متفرقة، والعابد لها متحير أيها يرضى، وأنها مسخرة ومقهورة لله وفي قبضته، وليس لها من الألوهية إلا الاسم الذي أعطي لها زوراً وبهاتاناً دون حجة ولا برهان مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [يوسف: ٤٠]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: ١٧١


(١) انظر: ((شرح الأسماء)) للرازي (ص: ٢٢٢).
(٢) رواه مسلم (٥٣٧).
(٣) ((الكتاب الأسنى)).

<<  <  ج: ص:  >  >>