للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثالث: أصناف الجن من حيث الإيمان والكفر, والصلاح والفساد]

كما أن الجن قبائل مختلفة، فهم كذلك أصحاب ملل ونحل متباينة، وفيهم المؤمن والكافر، والعادل والظالم، يقول سيد سابق: (والجن طوائف: فمنهم الكامل في الاستقامة وعمل الخير، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم البله المغفلون، ومنهم الكفرة وهم الكثرة الكاثرة) (١)، قال تعالى: إخباراً عنهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن: ١١]. يقول القرطبي: (هذا من قول الجن، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم: وأنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون، وقيل: ومنا دون ذلك، أي ومن دون الصالحين في الصلاح) (٢).

وقوله تعالى: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:١١] أي فرقاً شتى، قاله السدي، وقال الضحاك: أدياناً مختلفة، وقال قتادة: أهواء متباينة (٣)، ومنه قول الشاعر:

القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد

والمعنى: أي لم يكن كل الجن كفاراً، بل كانوا مختلفين، منهم كفار ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء (٤). وقال مجاهد: يعنون مسلمين وكافرين، وقال الحسن والسدي: في الجن أمثالكم، فمنهم قدرية, ومرجئة, ورافضة، وخوارج وشيعة, وسنة، وقال سعيد بن جبير: ألواناً شتى. وقال ابن كيسان: شيعاً وفرقاً، ومعنى الكلام أصنافاً مختلفة ومذاهب متفرقة (٥)، وقال سعيد بن المسيب: كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس) (٦).

وذكر بعض العلماء أن هذه المذاهب المختلفة في الجن إنما هي بعد مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام واستماعهم للقرآن منه، يقول الإمام القرطبي في قوله تعالى إخباراً عن الجن: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:١١] (وقال قوم: أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، منا المؤمنون ومنا الكافرون، والأول أحسن – يقصد أنهم كانوا مؤمنين وكافرين قبل استماعهم للقرآن، بعد مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام – لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى. وقد أخبر عنهم أنهم قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ [الأحقاف: ٣٠]، وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوارة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان (٧).) قال السبكي: (لا شك أنهم مكلفون في الأمم الماضية كهذه الملة، إما بسماعهم من الرسول، أو من صادق عنه، وكونه إنسياً أو جنياً لا قاطع به) (٨).

وظاهر القرآن يشهد للقرطبي من أنهم كانوا فرقاً شتى قبل استماعهم للقرآن، مسلمين وكفاراً وغير ذلك، لأن النفر الذين انطلقوا إلى قومهم بعد سماع القرآن، قالوا مخبرين عن أنفسهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن: ١١]. فقد عبروا عن حالتهم السابقة قبل استماع القرآن بلفظ الماضي.


(١) ((العقائد الإسلامية)) (ص: ١٣٤).
(٢) ((تفسير القرطبي)) (١٩/ ١٥).
(٣) ((تفسير الطبري)) (٢٣/ ٦٥٩)
(٤) ((تفسير القرطبي)) (١٩/ ١٥).
(٥) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (١/ ٤١٤) بتصرف.
(٦) ((تفسير القرطبي)) (١٩/ ١٥).
(٧) ((تفسير القرطبي)) (١٩/ ١٥).
(٨) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: ٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>