للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ثمان وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله القريب]

أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالقرب من داعيه بالإجابة، ومن مطيعه بالإنابة، فإنه يحرص على أن يكون قريباً من الله بتكميله العبودية، فإنه ليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمل قرب العبد إليه خصه بمزيد فضله، فمن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً.

هذا قربه تعالى من عابده، وأما قربه من داعيه فكما في الآية: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: ١٨٦]، وقربه تعالى من عباده وداعيه قرب خاص أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه (١).

وبهذا يتبين أن قربه تعالى من عباده نوعان:

أولهما: قربه – تعالى – من قلوب المؤمنين، وقرب قلوبهم منه، وهذا أمر معروف لا يجهل فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة به تعالى وذكره وخشيته والتوكل عليه لم ينكره منهم أحد. والثاني: ما دل عليه الحديث ونحوه مثل قربه عشية عرفة، وقربه آخر الليل، كما ثبتت بذلك النصوص. وهذا القرب ينكره أكثر المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشعرية، وإنكاره منكر (٢).

وللرد على من زعم أن القرب يقصد به الحلول والاتحاد قال الإمام ابن القيم: (وأما ما ذكرتم من أن مشاهدة القرب تجعل القصد قعوداً: فكلام له خبئ، وقد أفصح عنه بعض المغرورين المخدوعين بقوله:

ما بال عينك لا يقر قرارها ... إلام ظلك لا يني متنقلاً

فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا

وكأن صاحبه يشير إلى أنه وجود قلبه ولسانه، ووجوده أقرب إليه من إرادته ولطفه. هذا خبيء هذا الكلام، وتعالى الله عن إلحاد هذا وأمثاله وإفكهم علواً كبيراً، بل هو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه.

وأما ما ذكرتم من القرب: فإن أردتم عموم قربه إلى كل لسان من نطفه، وإلى كل قلب من قصده، فهذا – لو صح – لكان قرب قدرة وعلم وإحاطة لا قرباً بالذات والوجود، فإنه سبحانه لا يمازج خلقه، ولا يخالطهم، ولا يتحد بهم مع أن هذا المنى لم يرد عن الله ورسوله، ولا عن أحد من السلف الأخيار تسميته قرباً، ولم يجئ القرب في القرآن والسنة قط إلا خاصاً كما تقدم.

وإن أردتم القرب الخاص إلى اللسان والقلب: فهذا قرب المحبة، وقرب الرضى، والأنس كقرب العبد من ربه وهو ساجد، وهو نوع آخر من القرب لا مثال ولا نظير، فإن الروح والقلب يقربان من الله وهو على عرشه والروح والقلب والبدن، وهذا لا ينافي القصد والطلب، بل هو مشروط بالقصد، فيستحيل وجوده بدونه، وكلما كان الطلب والقصد أتم كان هذا القرب أقوى (٣). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: ٤٧١


(١) ((بدائع الفوائد)) (٢/ ٣١٠).
(٢) كتاب ((التوحيد)) للغنيمان (١/ ٢٦٦).
(٣) ((مدارج السالكين)) (٢/ ٣٠٠ - ٣٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>