[المبحث السابع: الوجه السادس الزعم بأن تكليف العباد غير ما فعلوا هو من باب التكليف بما لا يطاق]
وزعم من ذهب هذا المذهب أن فاعلي المعاصي والذنوب لا يستطيعون غير ما فعلوا، وتكليفهم بخلاف ما فعلوا تكليف بما لا يطاق، وتكليف مالا يطاق جاءت الشريعة بنفيه في قوله: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:٢٨٦]. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا [الطلاق:٧]، واحتجوا بمثل قوله تعالى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف:١٠١]، وقوله: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [هود:٢٠]، وقوله: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:٩]. قالوا: فهذه الآيات مصرحة بأنهم لم يكونوا يستطيعون الفعل، وهؤلاء ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وزعموا أنه متناقض، وحاشاه أن يكون كذلك. والجواب عما شغبوا به أن الاستطاعة المنفية في الآيات التي احتجوا بها ليست هي الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي، فإن تلك إذا انتفت انتفى الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحمد والذم، والثواب والعقاب. ومعلوم أن العباد في هذه الحال مأمورون منهيون موعودون متوعدون، فعلم أن المنفية ليست هي المشروطة في الأمر والنهي. فالاستطاعة المنفية في الآيات التي احتجوا بها ليست بسبب استحالة الفعل أو عجزهم عنه، وإنما هي بسبب تركهم له والاشتغال بضده، كالكافر كلفه الله الإيمان في حال كفره، لأنه غير عاجز عنه ولا مستحيل فعله، فهو كالذي لا يقدر على العلم لاشتغاله بالمعيشة. أما الاستطاعة التي هي مناط التكليف، فهي المذكورة في مثل قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى الناسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:٩٧]، وقوله: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:٤]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:((صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)) (١). ومعلوم أن الله لا يكلف مالا يطاق لوجود ضده من العجز، فلا يكلف المقعد بأن يصلي قائماً، ولا يكلف المريض بالصيام، ولا يكلف الأعمى بالجهاد والقتال، لخروج ذلك عن المقدور. وقد اتفق أهل العلم أن العبد إذا عجز عن بعض الواجبات سقط عنه ما عجز عنه، فمن قطعت منه رجله سقط عنه غسلها، ومن لم يستطع اغتسال الجنابة أو القيام أو الركوع ونحو ذلك سقط عنه ما عجز عنه. وبذلك يظهر لك أن عدم الاستطاعة المذكورة في الآيات التي احتج بها هذا الفريق غير مشروطة في شيء من الأمر والنهي والتكليف باتفاق المسلمين، والاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي في الآيات التي سقناها هي التي لم يكلف الله أحداً شيئاً بدونها. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص٩٣
(١) رواه البخاري (١١١٧) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.