للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث العاشر: هيمنته على الكتب السابقة]

أصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب؛ يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده قد هيمن فلان عليه.

وتقول: هيمن فلان على فلان، إذا صار قريباً عليه؛ فهو مهيمن (١).

ويسمى الحاكم على الناس والقائم بأمورهم: المهيمن (٢).

ولفظ مهيمن كان أصله (مؤيمن) بالهمزة، ثم قلبت الهمزة هاء لقرب مخرجها، كما تقلب في أرقت الماء؛ فيقال: هرقت الماء. ويقال: ماء مهراق، والأصل: ماء مراق (٣).

وأهل السنة والجماعة يؤمنون أن القرآن الكريم هو المهيمن على كل الكتب قبله؛ بمعنى: أنه أمين عليها، حافظ لها، وشاهد على أنها حق من عند الله تعالى، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما فيها من التحريف والتبديل، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، فصارت له الهيمنة عليها من كل وجه.

نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام رحمه الله: (السلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب) (٤).

فهو الأمين والشاهد على ما بين يديه من الكتب، وهو أيضاً الحاكم على كل كتاب قبله بإجماع المسلمين.

قال رحمه الله: ( ... إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن، وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن) (٥).

وقد بين رحمه الله السبب في احتلال القرآن هذه المنزلة العالية، والمرتبة الرفيعة بقوله: (فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بياناً وتفصيلاً، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضاً ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات) (٦).

ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: تواترت النصوص عن سلف هذه الأمة وخلفها على أن القرآن الكريم هو المؤتمن والشاهد والحاكم على ما بين يديه من الكتب.

فقد روى الطبري رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسير قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: ٤]. قال: (المهيمن: الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله) (٧).

وروي عنه أيضاً أنه قال: (وَمُهَيْمِنًا أي: حاكماً على ما قبله من الكتب) (٨).

وقال قتادة رحمه الله: وَمُهَيْمِنًا أي: (أميناً وشاهداً على الكتب التي خلت قبله) (٩).


(١) انظر: ((تفسير الطبري)) م٤ (٦/ ٣٤٤)، و ((فتح الباري)) (٩/ ١٤٩).
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (١٧/ ٤٣).
(٣) انظر: ((تفسير غريب القرآن)) لابن قتبة (ص: ١٢).
(٤) ((مجموع الفتاوى)) (١٧/ ٤٣).
(٥) ((منهاج السنة النبوية)) (٥/ ٥٠٨)، وانظر كذلك (٥/ ٥٠٩).
(٦) ((مجموع الفتاوى)) (١٧/ ٤٤).
(٧) ((تفسير الطبري)) م٤ (٦/ ٣٤٥).
(٨) ((تفسير ابن كثير)) (٢/ ٩٢).
(٩) ((تفسير الطبري)) م٤ (٦/ ٣٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>