وتأمل أخي المسلم كمال هذا الدين، واستعرض موكب الأديان من قبله، منذ خلق آدم عليه السلام، إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، سترى أنبياء تترى، فإن تأملت وتدبرت، رأيت كل نبي إنما أرسل لقومه، وأن كل رسالة محدودة بزمن معين، فكل رسالة إنما هي لطائفة خاصة في بيئة خاصة، ومن ثم كانت كل رسالة محكومة بظروفها، ومتوازنة مع هذه الظروف، فكان لكل منها شريعة للحياة تناسب حال الجماعة, والزمان، والمكان، والعوامل المؤثرة في حياتها.
حتى إذا ما أراد الله أن يختم الأديان كلها بدين واحد يجتمع عليه الناس كلهم، أرسل لهم جميعاً رسولاً، برسالة تخاطب الفطرة الإنسانية التي لا تختلف في بيئة أو في عصر عن عصر، لا تخضع لزمان معين، ولا تتقيد بظروف معينة، لأنها تخاطب في الإنسان ملكة لا تتغير ولا تتبدل، لا تتحور ولا تتطور: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ [الرُّوم: ٣٠].
فجاء هذا الدين بكل ما تحتاجه البشرية. وبهذا كان كمال الدين، وبهذا كان إتمام النعمة، وهو الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، واصطفاه لهم من الدين.
ويعني أيضاً وفاء الشريعة، وكمالها، وشمولها لحاجات البشر كلهم، في كل مكان، وفي كل عصر إلى يوم القيامة، ففي القرآن التفصيل: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام: ١١٤]، فهو النظام الشامل الكامل لشؤون الحياة كلها، فلا يبتغي المؤمنون به بديلاً، ولا يرتضون إلا حكمه، ولا يقبلون إلا شريعته، ليس فيه نقص يستدعي الإكمال، ولا قصور يطلب الإضافة، ولا اعوجاج يحتاج إلى التعديل، ولا جمود يطلب التطوير، ولا البلى الذي يستدعي التجديد.
بل هو الكتاب الكامل، الوافي، المستقيم، المتجدد في عطائه، الصالح لكل زمان ومكان، وهذا بعض ما يعنيه كونه آخر الكتب المنزلة.
ويعني أيضاً حفظه عن التحريف، والتغيير، والتبديل، فكتاب لن ينزل من بعده كتاب حقه أن يخص بالحفظ فلا تطاله يد التحريف، ولا تناله يد التغيير, ولهذا تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: ٩]، دون سائر الكتب السابقة، قال الزمخشري: (وهو حافظ – أي للقرآن – في كل وقت، من كل زيادة ونقصان، وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنه لم يتول حفظها، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار، فاختلفوا فيما بينهم بغياً، فكان التحريف، ولم يكل القرآن إلى غير حفظه) (١).
ويعني كونه آخر الكتب المنزلة أن الدين الذي جاء به هو الدين الصحيح، الذي يجب أتباعه، والذي ينسخ الأديان كلها، فلا يبقى في الساحة سواه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: ٨٥]، وقال سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران: ١٩]، وقال سبحانه: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: ٣].
ويعني كون القرآن آخر الكتب المنزلة، أن دينه دين خالد، وشريعته باقية، وأنها الرسالة الأخيرة للبشرية كلها، فمن بدلها، فقد ابتغى غير الإسلام ديناً: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، فلا مجال أبداً لمزاحمة هذا الدين بدين آخر، ولا مجال أبداً لإقصائه عن مكانه الذي خصه الله به، وما حفظ القرآن إلى يوم القيامة، إلا بقاء لهذا الدين إلى يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى متم نوره ولو كره الكافرون. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: ١٩٠
(١) ((الكشاف)) الزمخشري (٢/ ٣١١).