للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: حول ما ينسب إلى المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب]

اشتهر على ألسنة كثير من الناس أن المرجئة هي الفرقة التي تقول: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا القول وإن نسب إلى بعض المرجئة، كاليونسية (١)، إلا أنه لا يُعلم قائل من أهل العلم قد ذهب إليه، ونسبته إلى مقاتل بن سليمان كذب عليه.

قال شيخ الإسلام: (وأما ما يذكر عن غلاة المرجئة أنهم قالوا: لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد، فلا نعرف قائلا مشهورا من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول) (٢).

وقال: (وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معيناً أحكي عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب ولا يعيِّنون قائله، وقد يكون قول من لا خلاق له، فإن كثيرا من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا) (٣).

والخطر الذي يكمن من شيوع هذه المقالة، هو ظن كثير من الناس أن من برئ من هذا فقد برئ من الإرجاء، وظنهم أن الإرجاء قول متهافت ظاهر البطلان، لا يمكن أن يقول به أحد قرأ القرآن، ونظر في السنة، وعرف شيئا من نصوص الوعيد؛ فإنَّ كون المسلم الموحد قد يدخل النار بذنبه، تواتر تواترا يفيد العلم الضروري.

ولو كان الإرجاء منحصرا في هذه المقالة المتهافتة، لما ذهب إليه جمع من العباد والزهاد، والفقهاء والنظار، من أمثال طلق بن حبيب، وذر بن عبد الله، وحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، وأبي الحسن الأشعري في أحد قوليه، وأبي منصور الماتريدي، ومن تبعهما من الأشاعرة والماتريدية، وفيهم خلق كثير من الحنفية والمالكية والشافعية، وبعض الحنابلة.

وهذا الجهل بحقيقة الإرجاء، ومقالات المرجئة، أدى إلى شيوعه وانتشاره، وتبني كثير من المتأخرين له، حتى دخل على بعض المنتسبين للحديث والسنة في هذه الأزمنة، كما دخل على من قبلهم ممن يصرح بالبراءة من قول المرجئة، مع نصره لشيء من مقالاتهم.

وأنا أسوق إليك شواهد، تدل على ما ذكرت:

١ - قال الملا علي القاري في الدفاع عن أبي حنيفة: (ثم المرجئة المذممة من المبتدعة ليسوا من القدرية، بل هم طائفة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فزعموا أن أحدا من المسلمين لا يعاقب على شيء من الكبائر، فأين هذا الإرجاء؟! ثم قول أبي حنيفة مطابق لنص القرآن، وهو قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:٤٨] (٤)، بخلاف المرجئة حيث لا يجعلون الذنوب مما عدا الكفر تحت المشيئة ... ثم اعلم أن مذهب المرجئة أن أهل النار إذا دخلوا النار فإنهم يكونون في النار بلا عذاب، كالحوت في الماء، إلا أن الفرق بين الكافر والمؤمن أن للمؤمن استمتاعا في الجنة، يأكل ويشرب، وأهل النار في النار ليس لهم استمتاع أكل وشرب، وهذا القول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة من أهل السنة والجماعة وسائر المبتدعة) (٥).


(١) انظر: ((شرح المواقف)) للجرجاني (٤/ ٤٢٨).
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٤٨٦).
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ١٨١)، و ((شرح الأصفهانية)) (ص١٨٢).
(٤) ومقصود المؤلف أن أبا حنيفة سمي مرجئا لتأخيره أمر صاحب الكبيرة إلى المشيئة، كما نقل ذلك عن القونوي، قبل أسطر من كلامه هذا.
(٥) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص١٠٤) وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>