[المبحث الثالث: الراجح في أهل الأعراف]
ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أصحاب الأعراف، وذكر بعض أوصافهم على سبيل الإجمال.
واختلف العلماء في تعينهم اختلافا كثيرا، فتعددت أقوالهم وتضاربت آراؤهم كما تقدم تفصيل ذلك.
وبهذا ندرك أن ترجيح قول من الأقوال، في تعيين أصحاب الأعراف، أمر من الصعوبة بمكان؛ ذلك أن القرآن الكريم لم يبين من هم بالتحديد. وما ورد في السنة من أخبار، فإنها كلها لا تخلو عن مقال، ولم يثبت منها شيء بسند صحيح يكون قاطعا للنزاع والخلاف.
وأما استنباطات العلماء فهي كما قدمنا تفتقر إلى دليل صحيح، بغض النظر عن كون تلك الأقوال المنسوبة إلى قائليها تصح نسبتها إليهم أم لا.
وإذا علم هذا فإنه لم يبق لنا من مستند إلا ما جاء في القرآن الكريم فنثبت ما أثبته في حقهم ولا نتعداه، فإن هذه المسألة من الأمور الغيبية التي لامجال للجزم برأي فيها دون نص ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر القرآن الكريم عنهم بأنهم: رجال يعرفون أهل الجنة وأهل النار بسيماهم، اختصهم الله بتلك المزية من بين خلقه.
وقد قال ابن جرير في الترجيح بين تلك الأقوال، وفي الرد على أبي مجلز: (والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال – كما قال الله جل ثناؤه فيهم: - هم رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ [الأعراف: ٤٦] من أهل الجنة وأهل النار بِسِيمَاهُمْ [الأعراف: ٤٦] ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح سنده، ولا أنه متفق على تأويلها، وإجماع من الأمة على أنهم ملائكة.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان لا يدرك قياسا، وكان المتعارف بين أهل لسان العرب أن الرجال اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم، ودون سائر الخلق غيرهم؛ كان بينا أن ما قاله أبو مجلز من أنهم ملائكة: قول لا معنى له، وأن الصحيح من القول في ذلك، ما قاله سائر أهل التأويل غيره، هذا مع أن من قال بخلافه من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار، وإن كان في أسانيدها ما فيها). (٢)
ولعل هذا هو الذي يتعين القول به من بين تلك الأقوال، وإن كان القول بأنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم هو ما ذهب إليه كثير من العلماء؛ إلا أن تلك الروايات لم تصف من الشوائب؛ بل هي كما قال الحافظ ابن كثير: (الله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة، وقصاراها أن تكون موقوفة). غير أن الجمهور تمسك بها.
وعن رأيهم هذا يقول محمد رشيد رضا:
ورجح الجمهور بكثرة الروايات أنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم. (١)
وقال – مستنبطا من دعاء أهل الأعراف: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف: ٤٧]: (والإنصاف أن هذا الدعاء أليق بحال من استوت حسناتهم وسيئاتهم، وكانوا موقوفين مجهولا مصيرهم). (٢)
ومما تقدم يظهر لنا مدى تفاوت أقوال العلماء في تعينهم لأهل الأعراف. على أن في بعض هذه الأقوال تناقضا ظاهرا، والمثال على ذلك: أن بعضهم قال: إن أهل الأعراف هم من الأنبياء، وكانوا على الأعراف لعلو منزلتهم وعظيم مكانتهم. وعلى نقيض هذا القول من قال: أن أهل الأعراف هم أولاد الزنا أو مساكين أهل الجنة، وهذان القولان بينهما من البعد ما لا يخفى.
على أن هذه الأقوال جميعها ليس لها سند صحيح من كتاب الله تعالى، ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما كان هذا الموضوع من الغيبيات؛ فلابد للقول بإثباته – على هيئة خاصة أو اعتقاده – من وجود سند صحيح؛ فالأولى أن يقال بتفويض العلم بحقيقتهم إلى الله عز وجل. والله أعلم. الحياة الآخرة لغالب عواجي- ٢/ ١٣٩١