للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[خمس وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرب]

١ - أن الله سبحانه هو الرب على الحقيقة، فلا رب على الحقيقة سواه وهو رب الأرباب ومالك الملك، وملك الملوك سبحانه وتعالى.

قال القرطبي: فالله سبحانه رب الأرباب، ومعبود العباد، يملك الممالك والملوك، وجميع العباد، وهو خالق ذلك ورازقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مخلوق فمملك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيء دون شيء. وصفة الله مخالفة لهذا المعنى، فهذا الفرق بين صفات الخالق والمخلوقين.

فأما قول فرعون –لعنة الله- إذ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: ٢٤]، فإنه أراد أن يستبد بالربوبية العالية على قومه، ويكون رب الأرباب فينازع الله في ربوبيته وملكه الأعلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات: ٢٥].

وقد قيل إن الرب مشتق من التربية فالله سبحانه مدبر لخلقه ومربيهم ومصلحهم وجابرهم والقائم بأمورهم، قيوم الدنيا والآخرة، كل شيء خلقه، وكل مذكور سواه عبده وهو ربه، لا يصلح إلا بتدبيره ولا يقوم إلا بأمره، ولا يربه سواه، ومنه قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ [النساء: ٢٣]، فسمى ولد الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها.

فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم ومصلحهم وجابرهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب المالك والسيد يكون صفة ذات اهـ (١).

ويبين الحليمي أن الله سبحانه يرعى العباد ويربيهم في أحوالهم وأطوارهم المختلفة فيقول: (الرب) وهو المبلغ كل ما أبدع حد كماله الذي قدره له، وهو يسل النطفة من الصلب ويجعلها علقة، والعلقة مضغة، ثم يجعل المضغة عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم يخلق في البدن الروح ويخرجه خلقاً آخر وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه وينشئه حتى يجعله رجلاً، ويكون في بدء أمره شاباً ثم يجعله كهلاً ثم شيخاً.

وهكذا كل شيء خلقه فهو القائم عليه به، والمبلغ إياه الحد الذي وصفه وجعله نهاية ومقداراً له (٢).

٢ - فمن عرف ذلك لم يطلب غير الله تعالى له رباً وإلهاً، بل رضى به سبحانه وتعالى ربا، ومن كانت هذه صفته ذاق طعم الإيمان وحلاوته، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً)) (٣).

قال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه، لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشته قلبه، لأن من رضي أمراً سهل عليه، فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له، والله أعلم (٤).

٣ - وقد تكلم العلامة ابن القيم عن ارتباط اسم (الرب) باسم (الله) كلاماً جيداً حيث يقول:

وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة. وهي (الله، والرب، والرحمن) كيف نشأ عنها الخلق، والأمر، والثواب، والعقاب؟ وكيف جمعت الخلق وفرقتهم؟ فلها الجمع، ولها الفرق.

فاسم (الرب) له الجمع الجامع لجميع المخلوقات. فهو رب كل شيء وخالقه، والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره. فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترقوا بصفة الإلهية، فألهه وحده السعداء، وأقروا له طوعاً بأن الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي العبادة والتوكل، والرجاء والخوف، والحب والإنابة والإخبات والخشية، والتذلل والخضوع إلا له.


(١) ((الكتاب الأسنى)).
(٢) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (١/ ٢٠٥) وقد ذكره في الأسماء التي تتبع إثبات التدبير له دون ما سواه، وكذا البيهقي في ((الأسماء)) (ص: ٩٤).
(٣) رواه مسلم (٣٤). من حديث العباس رضي الله عنه.
(٤) ((شرح مسلم للنووي)) (٢/ ٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>