للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الثالث: إبطال شبهة القائلين بأن الصحابة والتابعين قد شغلهم الجهاد عن فهم آيات الصفات ومسائل العقيدة]

والذين قالوا بهذه الشبهة أهل الابتداع، قديماً، والمستشرقين وتلاميذهم حديثاً؛ وابن عربي، وابن سينا وأبو حامد الغزالي فقال: (ثم إن هؤلاء مع هذا لما لم يجدوا الصحابة والتابعين تكلموا بمثل كلامهم، بل ولا نقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم صار منهم من يقول: كانوا مشغولين بالجهاد عن هذا الباب, وأنهم هم حققوا ما لم يحققه الصحابة, ويقولون أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلمهم هذه؛ لئلا يشتغلوا به عن الجهاد, وأهل السيف قد يظن من يظن منهم أن لهم من الجهاد وقتال الأعداء ما لم يكن مثله للصحابة, وأن الصحابة كانوا مشغولين بالعلم، والعبادة عن مثل جهادهم) (١).

أما المستشرقون فيمثلهم كتاب دائرة المعارف الإسلامية، حيث يزعم أحدهم أن الصحابة والتابعين عندما انتهوا من الفتوحات قاموا بتفهم القرآن، حيث يقول: (ولما استقر المسلمون بعد الفتوحات, ودخل من دخل في الإسلام من أرباب الديانات المختلفة, عكف المسلمون من جهة على فهم القرآن، والتعمق في الفهم، وأثار بعض هؤلاء الذين التحقوا بالإسلام دون أن يتبطنوه من جهة أخرى كثيراً من عقائدهم الدينية، وصاروا يتجادلون حولها، ويجادلون المسلمين فيها، في هذا المرحلة نجد الآيات المتشابهات في القرآن يتسعرضها المفكرون ويحللونها, ويحاول كل أحد أن يخضعها لما يرى, إما بأخذها على ظواهرها، وإما بتأويلها تنزيهاً لله تعالى، عما يوهم التشبيه في الذات أو الصفات وإما بالإيمان بها كما جاءت دون تعرض لها بتفسير أو تأويل, وكان نتيجة هذه المواقف من تلك الآيات ظهور فرقة المشبهة والمجسمة, وفرقة المعتزلة النافية للصفات مبالغة في التنزيه, والصفاتية، وهم جمهور السلف الذين بين بين) (٢)

ويردد أحمد أمين نفس فكرة المستشرقين فيقول: (إن المسلمين لما فرغوا من الفتح واستقر بهم الأمر، واتسع لهم الرزق، أخذ عقلهم يتفلسف في الدين، فيثير خلافات دينية، ويجتهد في بحثها، والتوفيق بين مظاهرها, ويكاد يكون هذا مظهراً عاماً في كل ما نعرفه من أديان, فهي أول أمرها عقيدة ساذجة، قوية لا تأبه الخلاف ولا تلتفت إلى بحث) (٣)

وهذه المزاعم في غاية البطلان وذلك لأن الصحابة قد اكتملت معالم عقيدتهم وشريعتهم قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم, ولقد كانت الأحداث التي عاشوها رضوا ن الله عليهم، والآيات التي خوطبوا بها ابتداء والتي تتحدث عن كل مسائل العقيدة هي الزاد الحقيقي الذي فهموا فيه أمور عقيدتهم، والتي عرضت بوضوح وشمول كبير أغناهم عن البحث, والتنقير, والابتداع, أو السؤال, فانطلقوا بهذا التصور الكامل عن الإله الحق، ووعده الحق لهم بالجزاء الحسن بالجنة، وأنه رضي الله عنهم، ورضوا عنه، انطلقوا يفتحون الدنيا شرقاً وغرباً، وقد امتلأت قلوبهم حباً وعقولهم معرفة وفهماً لكل معاني الصفات ويمثل هذا الكمال في الفهم والمعرفة ما رواه البخاري عن طارق بن شهاب قال: (قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا، لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت, وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة، وإنا والله بعرفة، قال سفيان، وأشك كان يوم الجمعة أم لا الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:٣]).

فقد أكمل الله دينه، وفهمته العصبة المؤمنة تمام الفهم، وأعرض عمر رضي الله عنه عن مزاعم اليهود، بأخذهم يوم نزول الآيات أعياداً، وأخبرهم عن علمه بزمان نزولها ومكان نزولها، فكانت تفيد تمام هذا الدين، وأعظم ما فيه مسائل العقيدة، ومن أخصها توحيد الإله الحق بأسمائه، وصفاته والإيمان الحق، وعدم تعريضها للجدال والخصومة، ولم يكن الصحابة ولا التابعين سلفاً لمن زاغت عقيدته فمال إلى التأويل, والتعطيل, أو مال إلى التشبيه, فإن الصحابة والتابعين ما كانوا يعدلون بالقرآن والسنة أي فكر بشري أبداً، وإنما الذين تفلسفوا هم قنائص زنادقة البلاد المفتوحة, الذين دخلوا في جدال معهم؛ كالجعد والجهم، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء وغيرهم الذين سقطوا في حمأة البدعة الممقوتة، وفتحوا باب الشرور على الأمة. العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: ٢٠٥


(١) ((النبوات)) لابن تيمية (ص: ٢٢١) ط ١٤٢٠هـ، دار الكتب العلمية بيروت.
(٢) ((دائرة المعارف الإسلامية)) (٥/ ٥٣١). دار المعرفة – بيروت.
(٣) أحمد أمين ((ضحى الإسلام)) (٣/ ٢)، دار الكتاب العربي – بيروت.

<<  <  ج: ص:  >  >>