للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعندما سئل مالك بن أنس، عن الاستواء أثبت المعنى، وترك القول بالكيفية، فقد جاءه رجل، فقال: يا أبا عبدالله, الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:٥] , كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، ثم أمر به أن يخرج (١)، فقول مالك وربيعة موافق لقول الباقين أمرّوها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم، وأيضاً فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية, إذا أثبت الصفات، وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية، لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير المراد, أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة, وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت, ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول (٢).

وقال أبو الفضل إسحاق بن أحمد بن غانم العلثي (ت٦٣٤هـ) في رسالة إلى عبد الرحمن بن الجوزي ينكر عليه أشياء، ومن جملتها التأويل، وزعمه أن جماعة من السلف فوضوا معنى الصفات، قال: (ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى كأنها صدرت لا من صدر سكن فيه احتشام العلي العظيم، ولا أملاها قلب مليء بالهيبة والتعظيم، وزعمت أن طائفة من أهل السنة الأخيار تلقوها، وما فهموا وحاشاهم من ذلك بل كفوا عن الثرثرة، والتشدق، ولا عجزاً بحمد الله عن الجدال والخصام, ولا جهلاً بطرق الكلام, وإنما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علم ودراية لا عن جهل وعماية) (٣).

ويرى شيخ الإسلام أن القول بالتفويض يفضي إلى (القدح في الرب جلا وعلا وفي القرآن الكريم، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بأن يكن الله تعالى أنزل كلاماً لا يفهم, وأمر بتدبر ما لا يتدبر, وبعقل ما لا يعقل, وأن يكون القرآن الذي هو النور المبين والذكر الحكيم سبب لأنواع الاختلافات، والضلالات، بل يكون بينهم، وكأنه بغير لغتهم، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ البلاغ المبين، ولا بين للناس ما نزل إليهم، وبهذا يكون قد فسدت الرسالة، وبطلت الحجة، وهو الذي لم يتجرأ عليه صناديد الكفر) (٤).

وهكذا تبدو لنا خطورة القول بالتفويض الذي رده علماء السلف، وجعلوه بدعة تقابل بدعة التأويل، وأن القول به هو إزراء بمقام النبوة، ومقام الصحابة، وسلف الأمة جمعاء؛ فهموا مراد ربهم، وعبدوه العبادة الحقة، وآمنوا بأسمائه، وصفاته كما جاءت في الكتاب والسنة، وهم فوق جميع أهل العقول، والأفهام لا يدانيهم في هذه المكانة أحد على الإطلاق كما قال الإمام الشافعي، رحمه الله، (إنهم فوقنا في كل عقل, وعلم، وفضل، وسبب ينال به علم, أو يدرك به صواب، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) (٥). العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: ٢٠٠


(١) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (١/ ٣٩٨)، وابن قدامة في ((إثبات صفة العلو)) (ص: ٢٨).
(٢) ابن تيمية ((مجموع الفتاوى)) (٥/ ٣٨ - ٤١) بتصرف، وانظر د. رضا نعسان، ((علاقة الإثبات والتفويض بصفات رب العالمين)) (ص: ٦٩) ط٣، مكة المكرمة.
(٣) ((الذيل على طبقات الحنابلة)) لابن رجب الحنبلي (٢/ ٢٠٧) نقلا عن الأستاذ عثمان علي حسن، ((منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة)) (٢/ ٥٨٧) ط١، ١٤١٢هـ مكتبة الرشد، الرياض.
(٤) ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (١/ ٢٠٤).
(٥) ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (٥/ ٧٣)

<<  <  ج: ص:  >  >>