للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: استراق الجن لأخبار السماء]

كان الجن قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم يسترقون أخباء السماء، وهو ما يوحيه الله لملائكته، وأصل ذلك قوله تعالى إخباراً عنهم: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: ٩].

قال القرطبي: (كان الجن يقعدون مقاعد لاستماع أخبار السماء، وهم المردة من الجن، كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة، فحرسها الله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) (١).

ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في حديثه الذي رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الملائكة تتحدث في العنان - والعنان الغمام - بالأمر يكون في الأرض، فتستمع الشياطين فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القاروة، فيزيدون معها مائة كذبة)) (٢).

ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري قال: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان، حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا: يوم كذا، كذا وكذا! فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء)) (٣).

وفي رواية عند مسلم في صحيحه: ((تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة, فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة)) (٤).

وهكذا فإن الجن كان يستمعون لأخبار السماء، ثم يلقون ذلك إلى الكهان من الإنس، فيزيدون على الكلمة مائة كذبة من عندهم، فيصدق الناس ذلك، قال الماوردي: (فأما استراقهم للسمع فقد كانوا في الجاهلية قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم يسترقونه، ولذلك كانت الكهانة في الإنس لإلقاء الجن إليهم ما استرقوه من السمع في مقاعد لهم، كانوا يقربون فيها من السماء كما قال تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: ٩]) (٥).

وقال ابن جزى الكلبي في تفسير قوله تعالى: إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: ١٠]. (والمعنى: لا تسمع الشياطين أخبار السماء، إلا الشيطان الذي خطف الخطفة) (٦).

وقد اختلف العلماء في استراق الجن للسمع بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم:

١ - فقال قوم: إن استراق الجن لأخبار السماء قد زال بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك زالت الكهانة.

٢ - وقال آخرون: إن استراقهم باق بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام (٧).

واختلفوا كذلك في أن الجن هل كانوا يرمون بالشهب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟


(١) ((تفسير القرطبي)) (١٩/ ١٢).
(٢) رواه البخاري (٣٢٨٨).
(٣) رواه البخاري (٤٨٠٠).
(٤) رواه البخاري (٦٢١٣)، ومسلم (٢٢٢٨). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٥) ((أعلام النبوة للماوردي)) (ص: ١٤٥).
(٦) ((كتاب التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي)) (٣/ ٣٦٨).
(٧) ((أعلام النبوة)) (ص: ١٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>