للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن الأنبياء الذي عملوا بأعمال البشر داود عليه السلام، فقد كان حدّاداً يصنع الدروع، قال تعالى: وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء: ٨٠]، كان حداداً، وفي نفس الوقت كان ملكاً، وكان يأكل مما تصنعه يداه.

ونبي الله زكريا كان يعمل نجاراً، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان زكريا يعمل نجاراً)) (١).

رابعاً: ليس فيهم شيء من خصائص الألوهية والملائكية:

ومقتضى كونهم بشراً أنهم ليسوا بآلهة، وليس فيهم من صفات الألوهية شيء، ولذلك فإنّ الرسل يتبرَّؤون من الحول والطول ويعتصمون بالله الواحد الأحد، ولا يَدَّعون شيئاً من صفات الله تعالى، قال تعالى مبيناً براءة عيسى مما نسب إليه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: ١١٦ - ١١٧].

هذه مقالة عيسى في الموقف الجامع في يوم الحشر الأكبر، وهي مقولة صدق تنفي تلك الأكاذيب والترهات التي وصف بها النصارى عبد الله ورسوله عيسى فطائفة قالت: الله هو المسيح ابن مريم حلّ في بطن مريم لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: ٧٢]، وأخرى قالت: هو ثالث ثلاثة لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: ٧٣] وطائفة ثالثة قالوا: هو ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً [مريم: ٨٨ - ٨٩].

لقد غلا النصارى في عيسى غلواً عظيماً، وهم بمقالتهم الغالية هذه يسبُّون الله أعظم سبّ وأقبحه، فهم يزعمون: (أنّ ربَّ العالمين نزل عن كرسي عظمته، فالتحم ببطن أنثى، وأقام هناك مدةً من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء، تحت ملتقى الأعكان، ثمّ خرج صبياً رضيعاً يشبُّ شيئاً فشيئاً، ويبكي، ويأكل، ويشرب، ويبول، ويتقلب مع الصبيان، ثمّ أودع المكتب بين صبيان اليهود، يتعلم ما ينبغي للإنسان، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثمّ جعل اليهود يطردونه من مكان إلى مكان، ثمّ قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذلّ والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثمّ ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله والأيمان، ثمّ أركبوه ذلك المركب الذي تقشعرُّ منه القلوب مع الأبدان، ثمّ شدّت بالحبال يده مع الرجلين، ثمّ خالطهما تلك المسامير، التي تكسر العظام، وتمزق اللحمان، وهو يستغيث، ويقول: ارحموني، فلا يرحمه منهم إنسان، هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي، الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، ثمّ مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوّان، ثمّ قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان) (٢).

فأيّ سبّ أعظم من هذا السبّ الذي نسبوه إلى الباري جل وعلا! وأي ضلال أعظم من هذا الضلال!. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص ٧٤


(١) رواه مسلم (٢٣٧٩) بلفظ: ((كان زكريّاء نجاراً)).
(٢) ((هداية الحيارى)) (ص: ٣ - ٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>