للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم ذكر بعد هذا قوله: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)) (١)؛ فيبين سبحانه أن ما أمرهم به من الطاعات وما نهاهم عنه من السيئات لا يتضمن استجلاب نفعهم، ولا استدفاع ضررهم كأمر السيد عبده، والوالد ولده، والإمام رعيته بما ينفع الآمر والمأمور، ونهيهم عما يضر الناهي والمنهي، فبين تعالى أنه المنزه عن لحوق نفعهم وضرهم به في إحسانه إليهم بما يفعله بهم وبما يأمرهم به، ولهذا لما ذكر الأصلين بعد هذا، وأن تقواهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه شيئاً، ولا ينقصه، وأن نسبة ما يسألونه كلهم إياه؛ فيعطيهم إلى ما عنده كلا نسبة، فتضمن ذلك أنه لم يأمرهم ولم يحسن إليهم بإجابة الدعوات، وغفر الزلات، وتفريج الكربات لاستجلاب منفعة، ولا لاستدفاع مضرة، وأنهم لو أطاعوه كلهم لم يزيدوا في ملكه شيئاً، ولو عصوه كلهم لم ينقصوا من ملكه شيئاً، وأنه الغني الحميد. ومن كان هكذا فإنه لا يتزيد بطاعة عباده وأمرهم ونهيهم ما يقتضيه ملكه التام وحمده وحكمته، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يستوجب من عباده شكر نعمه التي لا تحصى، بحسب قواهم وطاقتهم، لا بحسب ما ينبغي له، فإنه أعظم وأجل من أن يقدر خلقه عليه، ولكنه سبحانه يرضى من عباده بما تسمح به طبائعهم وقواهم، فلا شيء أحسن في العقول والفطر من شكر المنعم، ولا أنفع للعبد منه) (٢).

ويضرب الإمام ابن القيم مثالاً على الآثار المترتبة على عبودية الله تعالى باسمي الأول والآخر قائلاً: (فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد عن مطالعة الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك، إنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه الإعداد، ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله، وجوده، لم تكن بوسائل أخرى.

فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقراً خاصاً وعبودية خاصة، وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضاً عدم ركونه ووقوفه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق ألا يزول ولا ينقطع بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يغنى به، كذا نظر العارف إليه بسبق الأولية، حيث كان قبل الأسباب كلها، وكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، كل شيء هالك إلا وجهه، فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة وإليه تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو الحق وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده، فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ) (٣).

وللتعبد بهذين الاسمين (الأول والآخر) يرى الإمام ابن القيم أن لهما رتبتين:


(١) تقدم تخريجه.
(٢) ((مفتاح دار السعادة)) (٢/ ٥١٠ - ٥١٣).
(٣) ((طريق الهجرتين)) (ص: ١٩، ٢٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>